الرأسمالية المتوحشة والسيطرة على التعليم العام

كانت الخصخصة أحد أكبر وأخطر نتاجات العولمة؛ عندما خصخصت الممتلكات والموارد والمؤسسات والشركات والقطاعات العامة المدنية والأمنية والعسكرية. وكان ميلتون فريدمان، من جامعة شيكاغو، وراء هذا التوجه. وقاد هذا "الفتح" أو الفخ الرأسمالي الطاغي، الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وشريكته في التوجه رئيسة وزراء بريطانيا في حينه مارغريت تاتشر؛ المرأة الحديدية. ثم "كرّت السبحة"، وصار للخصخصة فلاسفة ومفكرون مؤيدون، كما صار لها معارضون.اضافة اعلان
لكن قطاعا عاما كبيرا ظلّ عصيا على الخصخصة، وهو قطاع التعليم العام، مع أنهم فتحوا ثغرات فيه تتسع بالمدارس الخاصة العالية الكلفة والرسوم في كثير من البلدان. وظل لعاب الرأسماليين الكبار (أو المتوحشين) يسيل حول هذا القطاع وفي جنباته، لأن خصخصته تعني اللعب بمئات المليارات من الدولارات سنوياً في أميركا وحدها. فاستنفروا الإعلاميين وبعض التربويين -ولا أقول المربين– والباحثين واشتروهم ليثبتوا فشل هذا التعليم ونجاح التعليم الخاص وتفوقه عليه. لم يهمهم أن قلة تقدر على هذا الأخير، وأنه يعني حرمان الأكثرية من التعليم والعودة إلى الأمية، وأنه ليس صحيحاً أن التعليم الخاص بمجمله أفضل من التعليم العام بمجمله. كما لم ينسوا تشويه صورة نقابات المعلمين التي تدافع عنه والعمل المتواصل لتفكيكها.
اخترعوا له في أميركا خصخصة من نوع خاص، سموها مدارس العقد أو العقود أو الميثاق (Charter Schools)؛ تقوم على التعاقد مع نفر من المعلمين والمعلمات في المدارس العامة بمغريات تجعلهم يتخلون عن المدرسة العامة والنقابة، ومن ذلك تحويل الضرائب التعليمية التي يدفعها الآباء والأمهات لهذه المدارس والسماح لمعلميها ومعلماتها باستخدام مرافق المدرسة المهجورة، وبالتالي حصولهم على رواتب أعلى ومزايا أفضل.
ففي مدينة شيكاغو، مثلا، يجري الاستعداد لإغلاق أربع وخمسين مدرسة تضم ثلاثين ألف تلميذ وتلميذة، وآلاف المعلمين والمعلمات ومشرفي الغذاء والأذنة والآذنات... الذين تظاهروا والآباء والأمهات الفقراء ضد هذا التوجه. لقد أمر رئيس بلدية شيكاغو -الجندي الإسرائيلي سابقاً، وصديق أوباما- رام عمانويل، بوضع الحواجز لحماية مجلس التربية والتعليم لمدينة شيكاغو من الآباء والأمهات الفقراء "الخارجين على القانون". كما أمر المجلس المديرين والمديرات المتعاونين بالتجسس على المتظاهرين وتزويده بكل المعلومات عنهم.
إن مدينة شيكاغو ليست وحدها في هذا الاتجاه، فهناك مدن أخرى تتبناه مثل مدينة كانسِس، وديترويت، وكليفلاند، وإنديانا بوليس، وبالتيمور، ونيويورك، ولوس أنجلوس... وقد صوت بتأثير الدعاية والإعلام مواطنو مدينة سياتل لتحويل مائة مليون دولار من ميزانية التعليم لتمويل أربعين "مدرسة ميثاق" جديدة، بعد أن ظل التصويت لصالحها يفشل سنة بعد أخرى. لكن من الذي يشن الهجوم الدائم على التعليم العام ويطالب بالعائد؟ إنهم أصحاب المليارات المعروفين، وعلى رأسهم بيل غيتس وشريكه في "مايكروسوفت" بول ألين، ووالد جيف بروس مؤسس موقع "أمازون"، وأليس والتون وريثة إمبراطورية "وول مارت".
تعمل مؤسسات غيتس للترويج لهذه المدارس الجديدة وتشجيع الناخبين على التصويت لصالحها، وتصبّ الأموال نقداً على مراكز البحوث لتخرج بنتائج لصالحها. وليخفي غيتس ما في نفسه، تبرع بقليل من الملايين لنقابات المعلمين لتهدئتهم واسترضائهم لتمرير التحول، مع أنه يكره هذه النقابات بشدة، لدرجة أنه أنفق مليوني دولار للترويج لفيلم: "بانتظار السوبرمان" والتهليل له، لأنه يمجد هذه المدارس ويلطخ سمعة راندي وينجارتن رئيس اتحاد المعلمين الأميركيين المناهضين لها، فيا لحب فعل الخير هذا، كما تقول كريستين كُلب. فإحسان هؤلاء المليارديرات ما هو إلا قناة للكم وشكم أفضل النقابات وأعضائها الأكثر إلهاماً للمجتمع وهم المعلمون والمعلمات. لعل هذا يذكرنا بنقد المفكر الأميركي الجنوبي بول فريري للتعليم الذي وصفه بالنظام البنكي، حيث التلميذ مجرد حساب فارغ يملأه المعلم بالمعلومات، أي أنه يحول التلاميذ إلى مجرد متلقين، ومحاولة السيطرة على تفكيرهم وأفعالهم. والآن، كما تذكر كُلـْب، تتحول مدارس هذه الأمة "إلى حسابات بنكية تغطيها صناديق الأغنى والأقوى".
وبما أننا في العالم الثالث تابعون، فسوف نجد تربويين ورجال أعمال يقلدون ويروجون لهذا "التحول"، ويزنـُّون ليل نهار على الدولة لتحجيم التعليم العام وتعظيم التعليم الخاص.