الرأي العام المغيب في الحرب على "داعش"؟

اضافة اعلان

تختلط الأوراق السياسية والأمنية والإعلامية أمام الأردنيين، بمن فيهم برلمانيون استفاقوا على خبر مشاركة سلاح الجو الأردني في حرب التحالف الدولي، بقيادة أميركا، على تنظيم "داعش" وأخواته، بعد أن كانوا أمسوا على تطمينات رئيس الوزراء بأن المملكة لن تكون جزءا من هذه الحرب.

باستثناء بضعة تصريحات رسمية، وبيانين مقتضبين عن القوات المسلحة؛ الأول أعلن صبيحة 23 /9 /2014 بأن سلاح الجو نفذ ضربات ضد أهداف "داعش" بالتزامن مع إعلان واشنطن مشاركة خمس دول عربية بالضربات، لم يكن الرأي العام يعرف أن الأردن على وشك الدخول في الجهد العسكري الذي يشبه اقتحام عش دبابير.

كان الأردنيون قد سمعوا لأشهر أن تنظيم "داعش" لا يشكل خطرا على أمن البلد واستقراره. فلم يتهيأوا للحرب ومبرراتها، أو تأثير ذلك على حياة المواطن وعلى الأمن الوطني؛ بسلوك المملكة طريقا محفوفة بالمخاطر، بما فيها احتمالات تعرض البلاد لهجمات انتقامية.

ربما كان الملك عبدالله الثاني المسؤول الوحيد الذي امتلك الجرأة والصراحة الكافيتين لوضع النقاط على الحروف علانية، حين ألمح إلى أن الأردن سيكون جزءا من الحرب على الإرهاب، معيدا تأكيد ذلك في مقابلاته الصحفية، وفي خطابه من على منصة الأمم المتحدة بعد يومين على انخراط الأردن في الحرب.

بخلاف ذلك، لم تتحمل الحكومة، ومجلس الأمة، والسلطة الرابعة (الإعلام)، والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، مسؤولياتها، منفرده ومجتمعة، في التعامل مع رأي عام غالبيته تشعر بالتقزز من ممارسات "داعش" وأخواته باسم الدين، والدين منها براء، لكنه (الرأي العام) يعارض في الوقت ذاته التدخل الأجنبي في شؤون المنطقة، ولا يثق بنوايا واشنطن تجاه العرب والمسلمين.

قد تكون دوافع مشاركة الأردن في هكذا جهد إشكالي ذات حساسية أمنية عالية، مقنعة، بل وهي مشاركة ضرورية أيضا من باب الاستباق والتحوط لخطر "داعش" الداهم قبل أن تهدد ديارنا جحافله الظلامية والمتعطشة للدماء. وكذلك من باب كسب تعاطف الرأي العام مع معركة قد تستمر لسنوات. وقد تتطلب التفاصيل الدقيقة للحرب التكتم والسرية.

لكن عملية الإخراج كانت بائسة، لا تنم عن أي شعور لدى الحكومة بالمسؤولية الأخلاقية والدستورية، ولا تحترم ذكاء الأردنيين. ما قد يكون له ثمن سياسي وأمني واقتصادي مرتفع -لا قدر الله- لو نفذ "داعش" وأخواته تهديداته بالثأر من الدول المشاركة في الحملة.

كان رئيس الوزراء أكد في 6 أيلول (سبتمبر) الماضي أن الأردن لن يكون عضوا في التحالف الدولي، وأنه "لا يخوض حروب الآخرين". لكن على الأرض حصل العكس تماما.

بتصريحه المضلل، يبدو رئيس الوزراء، صاحب الولاية العامة، للشعب الأردني إما أنه لم يكن يعلم مسبقا بالمشاركة -وهذه مصيبة لو ثبت ذلك في قادم الأيام- أو أن درجة استهتاره بالرأي العام وإدراكه بأن الإعلام لن يسائله، قد وصلت إلى درجة لا يعير فيها أي أهمية لسبعة ملايين أردني، يساهمون في دفع راتبه ومعاشات السلطات الثلاث ومؤسساتها جميعا.

مجلس النواب الفاقد للشعبية لم يشرك أيضا، ولو صوريا، في عملية صنع القرار. صحيح أن الدستور الأردني يعطي الملك حق إعلان الحرب وإبرام معاهدات السلام، بخلاف الحال في بريطانيا مثلا، لكن تخيلوا ما ستكون عليه الحال لو اجتمعت الحكومة والنواب للتشاور حول ترتيبات ومحاذير الحرب، بحيث يطلع الرأي العام على مبررات الأطراف المؤيدة والمعارضة لدخول الأردن طرفا رئيسا في الحرب.

ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يختار فيها كثير من الإعلام الحكومي والخاص، تغييب نفسه طواعية عن هذه المعركة الحيوية، بانتظار تعليمات الحكومة، أو الاختباء خلف الرواية الرسمية أو التطبيل والتزمير وتخوين الآخر.

باستثناء بعض تقارير إخبارية تحدثت عن "تحديات الحرب على "داعش" والتي تستدعي تحصين الجبهة الداخلية، أو عن اعتقالات تتم هنا وهناك بين صفوف مؤيدي "داعش"، ومقالات رأي تدعم الحرب على الإرهاب من باب استباق الخطر، لم نقرأ أو نسمع أي أخبار يومية عن سير العمليات الجوية المستمرة. ولم نقرأ أي مقال يخالف قرار المشاركة في الحرب. ولولا التصريحات الرسمية التي تصدر يوميا من واشنطن، ومقالات وتحليلات وسائط الإعلام الأجنبية والعبرية، لاعتقدنا بأن مشاركة الأردن في الحرب قد انتهت.

بالطبع، يبدي الإعلام الإلكتروني جرأة أكبر في تغطية الأخبار، وأيضا في تحميل مقالات رأي، من بينها لكاتب منع من النشر في صحيفة يومية، وآخر للنائب علي السنيد، يحذر فيه بأن الحرب على "داعش" تخفي وراءها مخططات لإعادة احتلال المنطقة.

سفارات أجنبية، بخاصة تلك التابعة لدول التحالف، قامت بجهد في تحذير رعاياها من زيارة وسط العاصمة والأماكن ذات الاكتظاظ السكاني والفنادق و"المولات". وبعض الدول منعت سفر رعاياها للأردن وغيرها من دول المنطقة.

لكن الأردنيين لم يسمعوا تحذيرات رسمية مشابهة من حكومتهم. وفي بعض الأحيان، نقرأ عن مسؤولين ينبهون الناس إلى عدم الاستماع أو الترويج للشائعات التي تتحدث عن وجود تهديدات أمنية في أماكن عامة، مؤكدين مع ذلك أن السلطات "تتعامل معها بأقصى درجات الجدية والانتباه، وإن كانت لا تستند إلى حقائق".

يوم الاثنين، حملت الصحف المحلية تطمينات لوزير الداخلية حسين المجالي بأنه "لا توجد تهديدات أمنية حقيقية مباشرة على الأردن"، وأن الأوضاع الأمنية في المملكة وعلى حدودها "جيدة ومستقرة". ونقلت الصحف عن مجلس الوزراء تشديده على ثقته بقدرات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية على "التصدي لخطر الإرهاب وتنظيماته".

لم نر أي صحيفة تبادر إلى تقديم منتج إعلامي بدافع ذاتي، يجيب عن الأسئلة التي تجول في خاطر الأردنيين، ويرد على الأصوات المشكّكة التي تعارض انخراط الأردن في الجهد العسكري لأسباب عقائدية أيديولوجية، أو من باب مناكفة الحكومة.

الأحزاب اليسارية والقومية -حال الإسلامية- دانت قرار المشاركة على أساس أن واشنطن معروفة بعدائها لقضايا الأمة العربية وعلى رأسها قضية فلسطين. ونبهت إلى أن مشاركة الأردن الحرب سيمنح أميركا غطاء للعودة عسكريا بعد هزيمتها في العراق، وتنفيذ مخططها الرامي لإعادة رسم خريطة المنطقة الجيو-السياسية وضرب فكرة الأمن القومي العربي. لكن أيا منها لم يدن جرائم "داعش" وفكره الظلامي، أو يوفر بديلا مقنعا لكلامها القائم على عدائها لواشنطن.

حسنا، لا عودة للوراء، والأردن جزء من الحرب بصورة مباشرة -بمشاركته في الضربات الجوية، وتقديم الدعم اللوجستي، وتبادل المعلومات الأمنية والاستخبارية، وتعبئة العشائر السُنّية في المناطق الحدودية السورية والعراقية ضد "داعش".

لكن كيف تتوقع الحكومة اجتياز هذا الوضع في حال خسرت معركتها مع الرأي العام الذي سيتأثر مباشرة في حال انتقام "داعش" وأخواته؟ لم نسمع رد الحكومة على حجج أصوات تعارض الضربات الجوية، وتخشى من أنها قد تزيد "داعش" تشددا، على غرار ما حصل مع "القاعدة" في أفغانستان والعراق، حين سيطرت أميركا على العراق وخرجت منه تاركة عمقنا الاستراتيجي ساحة مكشوفة أمام النفوذ الإيراني والمليشيات بشتى أصنافها وألوانها. كيف سيقنع الخطاب الرسمي والإعلام الأصوات التي ترى بأن هذه الحرب تستهدف الإسلام والمسلمين؟

الحرب على "داعش" باتت حربا إعلامية وشعبية بالدرجة الأولى. ولن نسجل نقاطا فيها من دون إعلام مهني محترف، يقدم منتجا مقنعا قائما على الحقائق والمعلومات؛ وخطاب رسمي لا يستغفل الشعب "المفتح"، ويتعامل بواقعية مع خطر التنظيم على الأمن والاقتصاد والمجتمع والحضارة والإنسانية. حرب قد تنهي "داعش" وأخواته عسكريا، لكنها لن تنهي تغلغل فكره وأيديولوجيته العدمية في أركان المجتمع، وبخاصة الفئات الشبابية المهمشة التي تبحث عن فرص عمل وعدالة اجتماعية ومشاركة في رسم مستقبلها ومحاربة الفساد.

إذن، التعامل مع خطر "داعش" يتجاوز الجهد العسكري والأمني، إلى وجوب إطلاق برامج سياسية واقتصادية وتعليمية متكاملة، يواكبها خطاب دين تنويري قادر على تقديم بديل يستقطب عقول الشباب الضائع وأفئدته.