الرعويات الجديدة

بقي مفهوم الدولة الريعية يشير إلى أنماط اقتصادية – اجتماعية هشة تبرز في مسار بناء الدول، ويشير الى الاقتصادات التي تعتمد على سلعة استخراجية واحدة أو اكثر أو مصادر تمويل خارجية، حيث تتراجع الإنتاجية الفعلية للسكان. وقد توفر الدولة الريعية الخدمات الأساسية وقد تغدق في الرفاه الاجتماعي، ولكن مقابل فقر كبير في الأنساق المدنية والمشاركة الفعلية للمواطنين. وقريبا من ذلك يبدو مفهوم الدولة الرعوية وهو أقدم الأنماط التاريخية لأشكال الدول ولا تشترط وجود سلعة واحدة ولا رفاه اجتماعي على حساب الأنساق المدنية، بل تتجسد الرعوية في نمط علاقة التبعية بين السلطة والمجتمع، ولكن أخطر ما يصيب الدول هو الجمع بين الريعية والرعوية. اضافة اعلان
في النموذج الأخطر الذي يجمع بين الريعية والرعوية يتراجع مفهوم الصالح العام الى ادنى المستويات، بينما تسود علاقات الاعتماد والولاءات السياسية والإدارية النخبوية، تعمل النخبة على التحصن بأشكال متعددة من الحماية؛ وهي في الحقيقة تمارس سلوكا شلليا وأحيانا عائليا يجمع شركاء المصالح والاصدقاء والاقارب والأصهار وغيرهم أكثر من كونها نخبة بالمفهوم التاريخي، اما اهم اشكال الحماية فتبدو بعلاقات التبعية الخارجية المعروفة تاريخيا وبالالتصاق مع المؤسسات التي توفر لها الحماية والشرعية بالمال والقوة، وبخلق إطار إعلامي واتصالي حولها يقوم بإضفاء المزيد من الشرعية على هذه النخبة ويقوم بخلق توافق زائف حول القضايا العامة وعلى رأسها مفهوم الصالح العام، وإعادة تعريف الأولويات والمفاهيم بما ينسجم مع مصالح الرعاة.
إن الرعوية الجديدة تصر على الاستمرار بالعلاقات الريعية اقتصاديا سواء مع الخارج أو مع مجتمعها لأن أحد أبرز أركان استمرار علاقات التبعية الرعوية يتمثل في استمرار الاعتماد الاقتصادي على حساب بناء قدرات إنتاجية محلية، ورغم أن حاكمية الرعويات الجديدة أكثر مرونة من السابق وتلبس أحيانا لبوسا ليبراليا واحيانا تبدو انها تسعى نحو الاقتصاد الاجتماعي إلا أنها تقدم مفهوم الولاء على مفاهيم الانتماء والصالح العام، بمعنى أن أدوات الرعاية تستمر وتتجسد اكثر في الوقت الذي تتراجع عمليا أدوات الريع بمفاهيمه الاقتصادية والاجتماعية على وقع التحولات السياسية وتقلبات الاسواق والزيادة السكانية وتفاقم ازمة المجتمعات الاستهلاكية.
المهم أن أزمة هذا النمط تزداد في استمرار تغير أدوات الريع أي تراجعها أحيانا وصولا لإفلاسها في بعض النماذج مقابل استمرار وتصاعد ادوات الهيمنة والعلاقات الرعوية، والاكثر خطورة حينما تلجأ بعض النظم إلى تعويض الخسائر في استخدام الريع بالمزيد من الضغط على أدواتها الرعوية، وحينما تصل الدول إلى هذه المرحلة فإنها تكون على بداية الدخول في أزمات التغيير الشامل التي تبدأ على شكل احتجاجات وفوضى.
وباستعراض سلوك أنظمة عديدة في الشرق الاوسط تشهد هذه الأزمات، يلاحظ كيف تزداد قوة العلاقات الرعوية وسط إفلاس الريع التقليدي، وكيف يتم خلق هندسة اجتماعية جديدة مثل إعادة اختراع الآخر في الداخل. تبدو أبرز ملامح هذه الحالة في خسائر الثقافة السياسية أي التراجع الكبير في قدرة المجتمعات على المساءلة العامة، أي قدرة الافراد والأطر المؤسسية المجتمعية ووسائل الإعلام على مراقبة أداء السلطات وفي المقدمة الحكومات، في الوقت الذي يزداد فيه الصراخ والأصوات المرتفعة التي تعبر عن لغة احتجاجية غير منظمة وغير واضحة المضامين، ترافقها خطابات غير مقنعة ومملوءة بالمعلومات الخاطئة والأكاذيب التي يسهل نفيها، إلى جانب ظاهرة أخرى في تصعيد رموز غير مقنعين، كل هذه التحولات تحمل مؤشرات إلى أين وصلت الأزمة من جهة وتدل على  نمط الصراعات القادمة.