الرقابة العسكرية الإسرائيلية: شواهد على التعتيم ودوافعه

القدس المحتلة- ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول (دافيد بن غوريون) خطابا جماهيريا في الثاني والعشرين من كانون الثاني(يناير) 1948، استعدادا لإعلان الدولة، قال فيه: "إنني أثق أنه يتوجب أن تكون هناك صحافة ناقدة، لكن علينا ألا نعطي معلومة للعدو، علينا ألا نساهم في دب الفزع في أوساط الجمهور".اضافة اعلان
بهذه الطريقة تفكر إسرائيل، ولأجل لذلك فهي تفرض رقابة عسكرية على الصحفيين أثناء الحروب، وحتى في الأوقات الطبيعية، ويعمل الرقيب العسكري في اتجاهين، الأول: هو التحذير من نشر بعض المواد، والثاني: توزيع مواد يجب عدم التطرق إليها في وسائل الإعلام.
الرقابة العسكرية
وقد عملت الرقابة العسكرية -إلى ما قبل العدوان على لبنان العام 2006- على فرض القيود والتعتيم على الأسرار الإستراتيجية كالسلاح النووي والعمليات الخارجية لجهاز الموساد، التي قد تسبب إحراجا لإسرائيل مع الدول كالاغتيالات وجمع المعلومات والمهمات الخاصة، لكن بعد 2006 بدأت الرقابة العسكرية توسع من سلطاتها، فأجبرت وسائل الإعلام على عدم بث خطابات قادة المقاومة كـ"خالد مشعل وإسماعيل هنية" من حركة حماس، والناطق باسم كتائب القسام و"حسن نصر الله" أمين عام حزب الله اللبناني، بعدها طورت الرقابة من إجراءاتها وأجبرت الإعلام الإسرائيلي على عدم بث المهرجانات الجماهيرية التي تقام في قطاع غزة، فضلا عن مهرجانات حزب الله إلا على شكل خبر صحفي عابر.
ثم أصبحت الرقابة العسكرية تعتم على أماكن سقوط صواريخ المقاومة بحجة أن المقاومة تستفيد منها في توجيه الصواريخ، لكن الإعلام كان يذكر الإصابات والأضرار، إلا أن الأمر اختلف في الحرب على غزة حيث منع الحديث عن الإصابات المادية والبشرية ما دون القتل واختصر الحديث عن القتلى.
شواهد على التعتيم
نركز في الحديث عن التعتيم الإعلامي الإسرائيلي على الخسائر المادية والبشرية من ثلاثة شواهد مختلفة تعزز فرضية أن الرقابة العسكرية تعتم على بعض أماكن سقوط الصواريخ فلا تفصح عن مواقع سقوطها أو الأضرار التي نجمت عنها.
الشاهد الأول: تقرير استخباراتي للمقاومة الفلسطينية في كتائب القسام (حصلنا على جزء منه)، يستند التقرير إلى جهد معلوماتي واستخباراتي بالإضافة إلى معلومات تم الحصول عليها من الفلسطينيين القاطنين في أراضي 1948 (عرب الداخل).
ما حصلنا عليه يتحدث عن عشرين موقعا تم استهدافها، وهي مجرد عينة من العديد من المواقع التي استهدفت، ولم يتطرق الإعلام لها.
الشاهد الثاني: عبارة عن وثيقة صادرة من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، تتحدث عن عزل حاخام مدينة ابْنِي بْراك بسبب حديثه للمواطنين الإسرائيليين في المدينة بأن الصواريخ لن تسقط على المدينة مما يخالف تعليمات الجبهة الداخلية، فقد سقطت الصواريخ وقد وقعت إصابات في صفوف الإسرائيليين، والجدير ذكره هنا أن هذه المدينة هي من المدن التي يقطنها المتدينون الإسرائيليون الذين يؤمنون بنبوءة الحاخام ويصدقون قوله على قول الحكومة.
الشاهد الثالث: كشف موقع "واللا" الإسرائيلي عن اعتقال مجموعة من ثلاثة أفراد من مدينة القدس بتاريخ 16/7/2014 كانوا يعملون في أحد مواقع البناء في مدينة أسدود، قاموا بتصوير إحدى رشقات الصواريخ باتجاه المدينة وتم نشرها على موقع فيسبوك، وقد تم توجيه تهمة الإرهاب لهم بسبب صيحات التكبير وخرق الرقابة العسكرية.
    فشل القبة الحديدية
لقد روجت لها الحكومات الإسرائيلية منذ عدوان 2009-2008 على أن القبة الحديدية أحد الحلول الرئيسية لمنع تساقط الصواريخ على المدن الإسرائيلية، وفي هذه المواجهة تدعي إسرائيل بأن القبة الحديدية تتصدى لكافة الصواريخ، وهنا نسجل ثلاث ملاحظات على القبة الحديدية تؤكد فشلها وهي:
1 - يتحدث الإعلام الإسرائيلي بأن لدى الحكومة ثماني منظومات للقبب الحديدية، وكل منظومة تغطي مدينة واحدة بواقع ثماني مدن محمية بنظام القبة الحديدية، ولكن المناطق التي تطلق عليها المقاومة الصواريخ تزيد على خمسين مدينة وبالتالي تبقى هناك 42 مدينة لا تحميها منظومة القبة الحديدية.
2 - تحدثت صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أيام أن عدد الصواريخ التي سقطت على المدن الإسرائيلية بلغ ما يقارب 1350 صاروخا، في حين تتحدث المصادر الرسمية الإسرائيلية عن أن القبة الحديدية أسقطت ما يقارب 230 صاروخا أي بواقع 15 % فقط من الصواريخ التي تسقط على المدن الإسرائيلية.
3 - إسرائيل تخدع بالصور وتقدمها دليلا على إسقاط صواريخ المقاومة عبر بثها صورا لانفجارات في الجو أو مواقع اعتراض القبة الحديدية للصواريخ، فمن الناحية العملية تعمل القبة الحديدية على إطلاق صاروخين أو ثلاثة مع انطلاق كل صاروخ من قطاع غزة للتصدي له، وفي حال عدم التصدي يعمل صاروخ القبة عبر نظام الانفجار الذاتي على مسافة ستة كيلومترات في الجو حتى لا يكمل سيره ويسقط على أحد التجمعات الإسرائيلية.
ويعني ذلك أنه ليس بالضرورة أن يكون كل بث لعملية تصد للصواريخ يمثل اعتراضا لها، لأن صواريخ القبة تنفجر بشكل ذاتي وهذا ما أكد عليه موتي شيفر خبير هندسة الطيران والفضاء والحائز على جائزة أمن إسرائيل حيث قال: "لا يوجد اليوم أي صاروخ يستطيع اعتراض صواريخ أو قذائف صاروخية، جميع الانفجارات التي نشاهدها في الأجواء هي تدمير ذاتي، والأجزاء التي نراها على الأرض تعود للقبة الحديدية نفسها".
  دوافع التعتيم
تعتبر إسرائيل أن المواجهة مع قطاع غزة تندرج ضمن المواجهات المحدودة فضلا عن حزب الله، وتختلف عن المواجهة العربية الكلاسيكية، وهي بالنسبة لها مواجهة وعي لا يوجد فيها حسم عسكري على الأرض، ولذا فإن الإعلام هو الذي يحدد من هو المنتصر، وهو أحد أهم أدوات المعركة، وترى أن إخفاء الأضرار والإصابات جزء من معركة الوعي التي تحاول الانتصار فيها.
هذا فضلا عن أنها لا تريد للجبهة الداخلية أن تتأثر وتصاب بالإحباط في ظل حديث الحكومة الإسرائيلية عن قوة ردع الخصم وأهمية الحفاظ على صورتها أمام جيرانها العرب، وهي الصورة التي تؤكد تفوقها العسكري وعدم تأثرها بأدوات المقاومة الفلسطينية.  إضافة إلى محاولة إسرائيل عدم الإدلاء بمعلومات تفيد المقاومة الفلسطينية في توجيه الصواريخ لتحديد الإصابة بدقة، مع إحباط الروح المعنوية لها ودفعها للبحث عن بدائل للصواريخ.
ويبقى التعتيم الإعلامي في الحرب الحالية هو الأكثر والأشد بالمقارنة مع الحروب والمواجهات السابقة بين المقاومة والاحتلال.
ورغم انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الحرة فإن الرقابة العسكرية ما زالت لها الكلمة الفصل في ذلك، حيث بإمكانها الدخول على أي من حسابات مواقع التواصل الاجتماعي وحذف ما فيه من معلومات أو صور تخالف الرقابة، ويمكنها أيضا معاقبة من يخالف تعليماتها بهذا الصدد، فالحوادث السابقة من اعتقال ومعاقبة الجنود الذين قاموا بنشر صور للقواعد العسكرية تشكل رادعا قويا لهم.
وعلى الرغم من قوة الرقابة العسكرية وقيودها على الإعلاميين والمواطنين الإسرائيليين فإن المقاومة لم يقتصر تطور أدائها فقط على الميدان، بل تطورت في شتى المجالات، فأصبحت تنافس العدو في الحرب النفسية، وتكسر احتكار التعتيم الإعلامي وتتحدى الاحتلال بالمعلومات التي تمتلك. - (الجزيرة نت)