الرقص على الجثث!

أخطر ما في الأحداث المرعبة المتتالية في مصر، هي الانتكاسة الثقافية والفكرية التي أصابت مختلف الأطراف، وباتت تنعكس على الشارع والحياة اليومية، والإعلام والفن، والجامع والجامعة.. على نحو لم تشهد له المجتمعات العربية مثيلاً في ذروة الحكم الاستبدادي المطلق!اضافة اعلان
وفي الوقت الذي من المفترض أن يواجه الإعلام هذه الانتكاسة الثقافية، أصبح هو الجاني والضحية في الوقت نفسه! فقبل أسبوع (تقريباً)، كتب الصحفي المعروف، فهمي هويدي، مقالاً في صحيفة الشروق المصرية، عن الإرهاب الفكري والروح "المكارثية" اللذين يجتاحان الأوساط الإعلامية والسياسية في مصر، وكشف ما تتعرّض له الصحيفة من ضغوط شديدة وابتزاز من قبل العسكر، من تهديد بحجب الإعلانات، أو التلويح بالانقضاض على مصالح أصحاب الصحيفة، فقط لأنّها تنشر أراءً مغايرة للرواية الرسمية المهيمنة على وسائل الإعلام الأخرى مجتمعة. وبالفعل، لم تمض سوى أيام قليلة حتى بدت آثار تلك الضغوط على الخط التحريري في الصحيفة؛ فاستقال الصحفي المعروف وائل قنديل، وتقلصت زاوية المقالات والآراء وجفّت بصورة ملحوظة، وهو ما لم يحدث للصحيفة في ذروة ضغوط نظام مبارك عليها عشية الثورة المصرية.
ولم تشفع لعمرو حمزاوي، ولا حتى لباسم يوسف الذي خصص برنامجه الشهير لإهانة الرئيس المخلوع محمد مرسي، خصومتهما المعلنة مع الإخوان المسلمين؛ عندما حذّرا من هذه الروح الإقصائية المتطرفة التي تجتاح الإعلام المصري، فكانت النتيجة أنّهما نالا حظّاً وافراً من الإهانات والشتائم من طرف السلطة الجديدة، بعدما تلقيا قسطاً مماثلاً من جمهور الإخوان المسلمين سابقاً! وتحوّل محمد البرادعي بين ليلةٍ وضحاها من قيادي في "الإنقاذ"، إلى شخص "جبان" ومنبوذ لدى هذا الطرف!
الروح الجديدة انتقلت بقوة لتضرب الأوساط الثقافية والإعلامية والسياسية العربية. يكفي فقط أن نتابع ونرصد مواقع التواصل الاجتماعي حتى نشاهد نتائج هذه الثقافة في سجالات المثقفين والجماهير، وعدم القبول بأيّ رأي مخالف ومغاير، بما يطاول العلاقات الإنسانية ذاتها، حتى إنّ أحدهم كتب على صفحته على "فيسبوك": "خسرت مع الثورة السورية نصف أصدقائي، ومع الأحداث المصرية النصف الآخر"!
هذا المنسوب من الانقسام والاستقطاب الحادّ يتوازى مع انتهاكات مرعبة وجماعية بحق المخالفين، حتى لو كانوا أبرياء ومدنيين. والمروّع أنّ روح التطرف تهيمن على المناخ العربي عموماً، فتجد من يبكي على أرواح الشهداء هنا، ويتحسّر على الجثث، ومن يرقص عليها من إعلاميين ومثقفين ومحتقنين!
ماذا حدث لنا؟! كيف يمكن تبرير قتل عشرات الآلاف في سورية من المدنيين، فنشكّك في كل ذلك، فقط بسبب اختلافات سياسية وأيديولوجية؛ أو أن يصمت البعض على تفجير عدمي بربري وقع في الضاحية الجنوبية ببيروت، طال أبرياء لا علاقة لهم بكل ما يحدث؛ أو أن تخرج مذيعة مصرية مشهورة لتعلّق بسخرية وتشكيك (على صفحتها الخاصة) على خبر استشهاد ابنة القيادي الإخواني، محمد البلتاجي، ذات الـ17 عاماً، فقط لأنّها تقف في "رابعة العدوية"؟!
إذا كان المثقفون والسياسيون من مختلف الأطياف يرون أنّنا نخوض اليوم معركة ثقافية مستعرة تتوارى خلف الصراعات السياسية بين النخب الأيديولوجية والمثقفين، على ثقافة المجتمعات وروحها وإدارة حياتها اليومية وحقوق الإنسان والأقليات وسؤال الدين وعلاقته بالمجتمع والفضاءين العام والخاص؛ فإنّ علينا الانتباه أنّنا نخسر جميعاً ومعاً المعركة الثقافية الأهم والأخطر، والتي تتمثّل في دفاعنا عن الحق في الاختلاف، واحترام قيمة التعددية، وقدسية الروح الإنسانية، ورفض اغتيال الرأي الآخر؛ فالمعركة السياسية تخطف مجتمعاتنا وثقافتها إلى الهاوية!
نتيجة هذه المعركة أنّ الجميع خاسر، في مصر وخارجها؛ فمن يلعب اليوم في القاهرة ستكون المباراة غداً على أرضه وبين جمهوره! دعونا نعود لنتفق مرّة أخرى على المبادئ الأساسية التي تشكّل أساس السلم الأهلي ومفتاح صيانته؛ الحق في الاختلاف والاعتقاد والتعبير عن الرأي، واحترام التعددية الثقافية والسياسية والدينية والمجتمعية، ورفض مبدأ الإرهاب الفكري والاجتثاث الثقافي والفكري.

[email protected]