الروح تعود إلى طرابلس الليبية

تقرير خاص - (أحوال تركية) 15/4/2021

طرابلس، ليبيا- في أزقة مدينة طرابلس القديمة المتشابكة، تجري أعمال الترميم على قدم وساق من أجل استعادة المجد الغابر إلى قلب العاصمة الليبية الذي كان مهمشاً في عهد الزعيم اللييبي الراحل، معمر القذافي. ويدفع العمال العربات المحمّلة بالرمل والإسمنت والركام، بينما يحفر آخرون الأرض ويطرقونها بمعاولهم منحنيي الظهور أو راكعين. ويتوقف ضجيج المطارق فقط عندما يرتفع صوت الأذان من مآذن المساجد العديدة في المدينة.اضافة اعلان
وتتزامن هذه الأعمال مع الانتعاش السياسي الذي تشهده ليبيا منذ تعيين حكومة جديدة مكلّفة بمهمة توحيد المؤسسات وتنظيم انتخابات وطنية في كانون الأول (ديسمبر)، بعد عقد من الحرب والنزاعات العنيفة التي تلت سقوط القذافي في العام 2011.
ويهدف العمل الذي بدأ في نهاية العام 2020 إلى "المحافظة على المدينة وتاريخها"، وعلى "هذا التراث المعماري الذي يعد واجهة ليبيا ويعبر عما في تاريخها من تجانس وتنوع وأصالة"، وفق ما يقول رئيس لجنة إدارة جهاز المدينة القديمة بطرابلس، محمود النعاس.
يتربع وسط المدينة على ما يزيد على خمسين هكتارًا يجري العمل الآن على تجميلها. ويقول النعاس: "هذه مسؤولية كبيرة جداً ملقاة على عاتق لجنة إدارة الجهاز الممول من الحكومة". ويضيف: "أستطيع أن أقول إنه لم يعد من الممكن إدخال قطعة حجر من دون علم وإشراف الجهاز". ويحرص القيمون على أعمال الترميم على استبعاد مواد مثل الإسمنت أو الخرسانات، مفضلين عليها المواد التقليدية مثل أحجار البازلت الصخرية لرصف الشوارع.
تأسست المدينة القديمة في طرابلس على أيدي الفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد. وتركت فيها حضارات عديدة (الرومانية واليونانية والعثمانية) بصماتها المعمارية. ولكن منذ نهاية السبعينيات، في عهد القذافي، فقدت المدينة روحها عندما تم إفراغها من عائلاتها العريقة التي أراد الدكتاتور السابق تدميرها والتي استقرت في أحياء طرابلس الجديدة خارج الأسوار العتيقة.
وبعد ذلك استهدف القذافي القطاع الخاص، فصادر منازل ومحلات تجارية، وفرض إدارة الدولة على بعض المؤسسات، فأغلقت محال وورش حرفية عديدة في المدينة القديمة، قبل أن تتداعى.
يقول التاجر القديم الحاج مختار: "لقد تغيرت المدينة وتغير سكانها بعد سنوات من إجبار أصحاب المحال والمصانع الحرفية على هجرها، واندثرت الكثير من معالمها واختفت حرف كثيرة كانت تورث من جيل إلى آخر". ويضيف "هناك حرف كثيرة اختفت"، مشيراً إلى أنه يتمّ اليوم "استيراد بعض مكونات الزي التقليدي الليبي من الخارج… من الصين أو تركيا مثلاً بدلاً من صناعتها محلياً بأيدٍ ليبية كما كان الحال في السابق".
ويرى الرسام محمد الغرياني (76 عاما)، وهو صاحب صالة عرض فنية في المدينة القديمة، أن الأعمال "في جميع أزقة المدينة القديمة وبعض شوارعها الرئيسية تثلج الصدر وترد الروح للمدينة التي كنا نتمتع بها عندما كنا صغاراً".
ويشير إلى أن "المدينة القديمة الآن في مرحلة صيانة عامة. وفي كل مرة يخرج فيها مبنى أو معلم، وينصب التركيز الآن على دار كريستا"، وهو مبنى مسمّى على اسم فنان من المدينة القديمة، وستستغرق إعادة تأهيله خمسة أشهر.
ويُنظر إلى هذا المبنى على أنه شاهد على التنوع الثقافي في طرابلس، فما يزال جزء منه يضم كنيسة القديس جورجيوس اليونانية الأرثوذكسية. وكان قد بناه عثمان باشا من عائلة القرمنلي العثمانية في العام 1664 ليكون سجناً للأسرى المسيحيين.
على مرّ السنين، تم تحويل أجزاء في شرق المدينة، حيث تقع القلعة، إلى متحف، فيما صمدت أسواق الذهب والحرير في وجه ويلات الزمن. وفي الأزقة المسقوفة أو تحت الممرات المزخرفة التي تصطف المحال على جانبيها، يتجول المتسوقون لشراء حاجياتهم.
وهناك تعرض البازارات الصور التذكارية: القوس الروماني لماركوس أوريليوس بالقرب من المدخل الشمالي الشرقي للمدينة ونخيلها ومئذنة جامع قرجي. وبعض الأماكن المهجورة في المدينة التي كانت تحولت الى مكبّات مفتوحة أصبحت اليوم ورش بناء ضخمة يشرف عليها مهندسون معماريون ومؤرخون وحرفيون وفنانون.
يقول المهدي عبد الله، وهو مواطن من سكان المدينة القديمة وفي الثلاثينات من عمره: "الشكر للعاملين في جهاز إدارة المدينة القديمة، ومنهم المهندسون المعماريون والحرفيون والفنانون والخبراء في التاريخ… كلّ يأتي بخبرته في مجاله".
بسبب هجرها لوقت طويل، تبدو بعض المباني في المنطقة منشآت عشوائية، وقد تداعى بعضها وتحول الى ركام. وفي أماكن أخرى، تمّ تدعيم بعض جدران المباني القديمة التي تنتظر تجديدها بعوارض خشبية تعبر الأزقة الضيقة. وفي أحد الشوارع المحفورة، يلعب أطفال ويركضون. ويقول المهدي: "الجميع يراقبونهم. إنها لميزة أن يعيش المرء في هذا المجتمع الذي يعاد بناؤه شيئًا فشيئًا".
الآن، أصبحت للواجهة البحرية شمال المدينة القديمة أرصفة وطريق إسفلتي. ولم تعد هناك مواقف عشوائية للسيارات أو حفر تحوّل الشارع إلى ممرات موحلة في الأيام الممطرة. وفي محله لمعدات الصيد والغوص، يقول محمد ناصر: "ولد أبي في بيت فوق هذا الدكان، وأنا عدت إلى هنا وأرى كل يوم تحسناً كبيراً في مظهر المدينة… وكأنها عادت إلينا أخيرا بعد طول غياب".