الزواج المدني والزواج الديني

p0407wuw
p0407wuw

د. هاشم غرايبة

أحد العاملين في واحدة من المنظمات غير الحكومية (NGO)، كان يتحدث بحماسة بالغة عن ضرر تدخل رجال الدين في حياة الناس، ويطالب بأن يرفع الدين يده عن الزواج ويترك الناس لكي يتزوجوا زواجا مدنيا.اضافة اعلان
صدم هذا (الناشط) عندما أعلمته أن الزواج في الإسلام مدني وليس دينيا، قال: كيف؟ ..والمأذون؟ أليس رجل دين؟
قلت له المأذون هو موظف مدني أذنت له الدولة بتسجيل عقود الزواج، وليس له صفة دينية، هل رأيت يوما عقد قران تم في المسجد؟، وحتى إمام المسجد ليس مرتبة دينية، فالذي يؤم الناس هو أعلم أهل الحي بالقرآن، والذي يخطب الجمعة هو القائد السياسي في الأصل أو من ينوب عنه كالوالي أو العالم أو الفقيه.
ما دفع العلمانيين إلى تصور أن هنالك رجال دين ورجال دنيا، هو التحوير للعقيدة المسيحية الذي تم عندما دخلت روما في النصرانية، فقد حوّل قسطنطين المعتقد الروحاني الى مؤسسة الكنيسة، وذلك لكي يسيطر على سلطة الدين مثلما السلطة السياسية، ثم خرجت الأمور عن السيطرة بعد تطور مؤسسة الكنيسة ليصبح رئيسها (البابا) ممثلا لله في الأرض، وتوسعت صلاحياتها لتستولي على جزء من صلاحيات الجهاز المدني، فاستحوذت على أهم المحطات في حياة الإنسان، من خلال سبعة طقوس تسمى الأسرار السبعة، والأول: تغطيس المولود في ماء المعمودية في الكنيسة والتي تعتبر الولادة الثانية للمولود، والثاني: زيت (الميرون) المسحة الرسولية، والثالث: القربان المقدس (الأفخارستيا) المصنوع من خبز الحنطة وخمر العنب، والرابع سر التوبة بالاعتراف أمام الكاهن، ويكون بوضع الصليب على الرأس كناية عن الغفران، والخامس: هو مسح جبين المريض بالزيت المقدس، والسادس: سر الزواج بوضع الإكليل المقدس فوق رأس العروسين إيذانا بالزواج، والسابع: سر الكهنوت بالإشارة باليد الأسقفية لمنح البركة، وفي النهاية وبعد موت المرء يقام له في الكنيسة قداس وجناز لراحة نفسه.
هكذا نجد أن مؤسسة الكنيسة قد تمكنت من ربط حياة الناس بها منذ الولادة في كل مراحل حياته حتى موته، ومن أجل ذلك نشأت العلمانية للتحرر من كل هذه القيود، لكن لو رجعنا الى الدين الذي تحددت كل تفصيلاته في الرسالة الخاتمة، لوجدنا أن كل تلك الروابط ليست من صلب الدين، بل ثمرة امتيازات تمكنت مؤسسة الكنيسة من انتزاعها من السلطة المدنية، والدليل على أنها ابتداع أوروبي، وليست من صلب العقيدة المسيحية أنه حتى القرن السادس للميلاد (زمن نزول القرآن) لم يكن مفهوم الكنيسة بشكلها المعروف شائعا في منطقتنا (التي هي منبت رسالة المسيح عليه السلام)، بدليل أنك لا تجد لفظة الكنيسة مذكورة في القرآن الكريم، فيما تجد ألفاظا متعلقة بعقائد أهل الكتاب مثل: الأحبار والرهبان كعلماء في الدين: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ"، والصومعة والبيعة والمسجد كأماكن للعبادة "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" [الحج:40].
التشريعات الإلهية جميعها عظّمت من شأن رباط الزوجية، فالأسرة هي اللبنة الأساسية والمُنشئ الشرعي الوحيد للمجتمع، وأهم معيار لفساد المجتمع هو بمقدار الأطفال غير الشرعيين، لأنه لا يمكن تقديم رعاية للطفل وجو صحي بديل لرعاية الأسرة الطبيعية.
لذلك لم يجعل التشريع الإلهي قيودا على الزواج، بل دعا لتسهيل الإجراءات فيصبح العقد صحيحا بالرضا والقبول وشهود على العقد، والذي تتحدد شروطه بالتراضي بين أطراف العلاقة، ولا يتدخل الدين في تفاصيله إلا من باب حماية حقوق المتعاقدين ومواليدهما، إنما ينصح بحسن الاختيار بناء على الأهلية والتكافؤ والتقوى.
الدور الأساسي للدين هو ضبط الالتزام بالأسس التي تضمن ديمومة الزواج وسعادة الزوجين وبالتالي إنتاج أجيال جديدة صالحة، كونها تربت في جو حميم يضمن صحة نفسية وجسدية جيدة.
إن دور الدين يتركز في الحفاظ على المؤسسة الزوجية، وليس في فرض سيطرة أو تدخل في هذه العلاقة، لذلك وَضع كثيرا من الحلول الاستباقية لمشكلة النشوز من قبل أحد الزوجين أو سوء المعاملة.
فهو منذ البداية أكد على أن الاختيار الأمثل هو بناء على التقوى، فمن كان يخشى الله يعرف الحدود والواجبات والحقوق فلا يتجاوزها، كما أنه يتصف بالتسامح ويتجمل بالصبر ويتعامل باللين، قال الحسن البصري: "زوّج ابنتك التقي، فإن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يهنها".
وإن وقع سوء التفاهم، فلحل مشكلة النشوز أوجد الإصلاح بالتحكيم من قبل ممثلين للطرفين "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا" [النساء:35].
وإن استعصى الإصلاح واستفحل الخصام حتى بات كرها، ولم تبق من وسيلة، يكون التفريق بينهما بالطلاق، لأن ذلك يحفظ الكرامة ويدرأ المشاكل.
هكذا نرى أن الدين ليس قيداً على الحريات، ولا يضع تكاليف مرهقة للزواج، بل راعٍ للحياة الزوجية، وواقٍ من الصدمات، وحافظ لكرامة البشر.