السؤال الكبير

ما الذي يحصل لأمة ما ينقلب وضعها من حال متدهور الى حال كله هِمة ونشاط وإنتاج بعد أن كانت مفلسة هامدة، فإذا بالروح تدب في أوصالها، ويزداد ضخ "الأدرنالين" في عروقها وشرايينها، فإذا هي كلها همة وفاعلية وإيجابية، وعزم وإرادة على قهر الصعب، ومغالبة الدنيا؟اضافة اعلان
في عام 1980، كُلِفتُ بالسفر الى تركيا من أجل استرداد مبلغ عشرة ملايين دولار كانت ديناً لشركة الفوسفات على الحكومة التركية، وقد عانت أيامها تركيا من كل الشرور الاقتصادية والاجتماعية التي نعرفها، بطالة وفقر، وارتفاع في الأسعار، وعجز في الموازنة، وشح في العملات الأجنبية، وقيود على الاستيراد، وتراجع في سعر الليرة، وفوق هذا وذاك، كانت هنالك حرب أهلية دامية بين الحزب الإسلامي الذي يقوده نور الدين أربكان والحكومة بقيادة سليمان ديميريل.
وأثناء وقوفي في مطار اسطنبول، تقدم مني شخص عريض المنكبين كَثُّ الحاجبين، وقال إنه يعمل مساعداً لمدير التخطيط. وكتب اسمه لي على دفتر الكبريت (المشط) حتى لا أنساه. ولما قابلت رئيس الوزراء قلت له لقد قابلت شخصاً متميزاً في مطار اسطنبول اسمه .. اسمه .. ونظرت الى مشط الكبريت وقرأت "تورجوت أوزال" .. فقال لي السيد ديميريل.. نعم  أتذكره . يقولون عنه شاب متميز.
وفي العام 1982 زرت تركيا كوزير للعمل بمعية سمو الأمير الحسن. وكان السيد "أوزال" قد أصبح نائباً لرئيس الوزراء بعدما قام الجيش التركي بالاستيلاء على السُّلطة، وأصبح كنعان ايفرين رئيساً للجمهورية.
والتقيت مع سمو الأمير الحسن بالسيد أوزال والذي خاطبنا قائلاً: المشكلة أننا في تركيا نملك الإمكانات لنصبح دولة منتجة ومنافسة، ولكننا مستغرقون بحل قضايا لن تساعدنا على ذلك، فنحن لا نستطيع أن نبني اقتصاداً منتجاً إلا إذا ابقينا الأجور منخفضة، ورضينا بالبطالة. فقلت له: وماذا عن العمال؟ فقال: إنهم يعانون الآن، ونحن نبني مَعَهم وَلَهُمْ ولأبنائهم مستقبلاً أفضل.
ولم ترق هذه السياسة المتحدية والجريئة للقيادة العسكرية، فعزلوا الرجل، ولما سُمح للأحزاب بالتشكل قام "أوزال" بتشكيل حزبه الذي اكتسح الانتخابات. وعاد في العام 1984، ليصبح رئيساً للوزراء.
في ذلك العام، مَثّلتُ الأردن كوزير للصناعة والتجارة في لجنة التجارة والتنمية التي يترأسها الرئيس التركي في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي. وصرت المقرر العام للجنة بفضل جهود الوفد الأردني المرافق، ولما كان الرئيس التركي علمانياً، فقد فوض ادارة اعمال المؤتمر لرئيس الوزراء السيد "تورجوت أوزال" وجلست الى جانبه. وحدثني عن طموحاته ببناء القاعدة الانتاجية في تركيا.
وبعدما تخلى العسكر عن السلطة، قابلت السيد أوزال كرئيس للجمهورية وكنت أيامها رئيساً للجمعية العلمية الملكية. وقال لي انذاك: سوف أعرفك على رجل تركيا القادم إنه رئيس بلدية اسطنبول المبدع واسمه رجب طيب أردوغان.
وها هي تركيا الآن دولة اقتصادية منتجة. ويأتي ترتيبها السابع عشر بين اقتصادات العالم. وصارت من كبار اللاعبين في المنطقة.
لقد عادت إليها الروح، لقد تبنت استراتيجية تقوم على رضا الناس وقبولهم بالصبر على الأوضاع واحتمال التضحيات حتى يتحقق المراد. لقد رضوا بالتضحية في المدى القصير بشرط أن تعود عليهم المنافع في المدى المتوسط والطويل.
ولقد صدق قادة تركيا وعدهم. وها هي تركيا تحقق واحداً من أعلى معدلات النمو في العالم. وإذا كانت الصدفة والحظ قد خدما تركيا في روسيا وآسيا الوسطى وشرق أوروبا والعراق والوطن العربي، فإن الحظ، كما قيل، يأتي لمن يستحقونه.

[email protected]