السخرية: خفة دم أم ماذا؟

تعالوا نرصد بعض المسلكيات علّنا نصل إلى نتيجة تفسر لنا ما التغير الذي يحصل عند الأردنيين، لأن ما يجري يستحق التوقف عنده والنظر فيه بعمق وتأنٍ وحذر أيضا.اضافة اعلان
القصة ليست جديدة ولم تبدأ الآن، ولا ترتبط بحزمة القرارات القاسية الأخيرة وحدها، بل ترجع في أعماقها إلى كل المعطيات التي سادت خلال السنوات الماضية.
الموضوع بصراحة معقد جدا، لكن إفرازاته ومخرجاته كبيرة ومتعددة الأوجه، ويتوقع أن تتضاعف هذه الإرهاصات خلال الفترة المقبلة، وعلى شكل أفعال جرمية كالسطو المسلح أو القتل أو الاعتداء، أو غير ذلك الكثير من السلوكيات السلبية أو الخارجة على القانون.
التغيرات الاجتماعية، أيضا، كثيرة ومتعددة، بدءا من العلاقات الأسرية التي تشهد تراجعا كبيرا، وصولا إلى تفكك أسر، وتدلل على ذلك قسوة وعدد الحالات التي تراجع المؤسسات المعنية، فيما القيم التي حميناها وحمتنا على مدار عقود تتكسر على شاطئ الواقع؛ الابن يقتل أباه، والابن أيضا يجزّ رأس أمه، والأب أو الأم يقضيان على أطفالهما، وحالات الطلاق في ازدياد وحدّث ولا حرج، إلى غير ذلك العديد من الجرائم التي تقشعر لها الأبدان.
المخدرات وتفشيها أيضا لا تنفصل عن حالة عامة حساسة وخطيرة، فتجدها بين الصغار والكبار؛ الأولاد والبنات، ويرتبط مع ذلك ارتفاع عدد حالات الانتحار.
بالمجمل؛ الصورة موجعة ومؤلمة، وربما تثير السخط والغضب. كل هذا وتجد الأردنيين يتلقون كل هذه الأنباء بسخرية ونكات ليس لها حدود، حتى بات معلوما أن أكبر قضية لدينا نتصدى لها باستخفاف أو بسخرية سوداء.
تعالوا نراجع السنوات الست الماضية وما حدث فيها، رغم أن الأعوام التي سبقتها لم تكن أقل وطأة على الناس. لا ينكر أحد أن الفترة الماضية كانت عميقة القسوة على المجتمع، فكل الظروف فيها قاسية ومخيبة للآمال بحياة فضلى.
القصة بدأت في 2011، عندما وقّعت الحكومة برنامج تصحيح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي في عهد حكومة فايز الطراونة حينما كان رئيسا للوزراء، طبّقه من بعده رئيس الوزراء السابق د. عبدالله النسور، وظل حتى بدأ التفاوض مع الصندوق على برنامج جديد سلّمه لحكومة د. هاني الملقي التي تلتزم بتنفيذه حرفيا منذ وجودها في الدوار الرابع.
ماذا نجم عن هذين البرنامجين؟ نتج عنهما زيادات فاحشة في الأسعار، وكثير من القرارات القاسية بتحرير المحروقات في عهد حكومة النسور، وغيرها من الخطوات التي تصب باتجاه زيادة الإيرادات المحلية. رَحلت حكومة النسور، لكن شيئا لم يتغير على السياسات والنهج، ولم يلمس المواطن أي تغييرات حقيقية إلا أسماء الأشخاص، فيما سياسات الجباية على حالها.
خلال العامين الأخيرين، نفّذت حكومة الملقي أكثر من حزمة، آخرها ما تمّ عقب إقرار موازنة العام الحالي، لكن الخطوة الأخيرة كانت عامة وكاسحة، وقابلها الناس أيضا برفض ساخر غير مسبوق.
على كل حال، ما نشهده من ظواهر سلبية لا يرتبط بالحزمة الأخيرة، فنتائج الحزمة الأخيرة لم تنعكس كثيرا على الناس بعد، وإن كانت ساهمت بتعميق أزمة الثقة بالحكومة، وعظّمت من المشاعر السلبية تجاه الدولة ومؤسساتها.
آخر إرهاصات القصة عمليتا السطو اللتان شهدناهما خلال الأيام القليلة الماضية على بنوك ومحال تجارية وسيارات، وما خفي أعظم، وما هو قادم أكثر بكثير، وكيف أن الأردنيين تعاملوا باستخفاف كبير مع الحوادث، وكأنها ليست أفعالا خارجة على القانون وتهدد الأمن المجتمعي.
ما يجري نتيجة طبيعية للسياسات الحكومية التي تزعم الإصلاح الاقتصادي، رغم علمها أن ما تقوم به لا يتجاوز الإصلاح المالي البحت، والأخير بالعادة يدفع كلفه المواطن، فيما الإصلاح الاقتصادي المغيّب جهلا أو قصدا، هو الذي يحقق التنمية المؤجلة، وتأخيرها سيجلب لنا حالا أسوأ مما نحن فيه.
العنوان الأبرز لرد فعل الأردنيين من كل ما يجري حولهم هو السخرية، فهل هي خفة دم ظهرت فجأة أم ماذا؟ الإجابة، ليس كل ما يجري سخرية، بل هو مرآة لمزاج سيئ، ومجتمعات قلقة على حاضرها ومستقبلها.