"السفارة" والعقاب

لم يكن للأردن إلا أن يتصرف كدولة، وأن يراعي القوانين والأعراف الدولية، ولكن في نفس الوقت كان على الحكومة أن تتصرف من واقع مهمتها الأساسية التي هي حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، خصوصا حقهم في الحياة وبذل كل جهد لازم قانوناً وواقعاً قبل الإذعان لحقيقة الالتزامات الدولية.اضافة اعلان
إن مراعاة حصانة الدبلوماسيين الأجانب هو التزام قانوني أردني سنداً لقانون العقوبات للعام 1960، قبل أن يكون التزاماً بالمواثيق والأعراف الدولية، حيث نصت المادة (11) منه: "لا تسري أحكام هذا القانون على الجرائم التي يرتكبها في المملكة موظفو السلك الخارجي والقناصل الأجانب ما تمتعوا بالحصانة التي يخولهم إياها القانون الدولي العام". وهذا النص من قانون العقوبات منسجمٌ مع الاتفاقيات الدولية التي انضم إليها الأردن، خصوصا اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية العام 1961، والتي تنص صراحةً على الحصانة القضائية لأعضاء السلك الدبلوماسي.
والفلسفة العامة وراء منح مثل هذه الحصانة تقوم على مبدأين أساسيين؛ الأول أن الدول التي تمنح الحصانة للدبلوماسيين على أرضها إنما تضمن المعاملة بالمثل لممثليها الدبلوماسيين على أراضي الدول الآخرى، وثانياً تطبيقاً لمبدأ دولي عرفي ومفاده: أن المصلحة في منح الدبلوماسيين الحصانة ذات أهمية أكبر من تطبيق القانون الوطني. وبغض النظرعن مدى اقتناعنا بهذين المبدأين فإن الأردن كدولة منضمة للأمم المتحددة ملزمة بمراعاتهما التزاماً بأحكام المادة 31 من اتفاقية فيينا التي تنص على تمتع المبعوث الدبلوماسي بالحصانة القضائية فيما يتعلق بالقضاء الجنائي للدولة المعتمد لديها.
موقف الحكومة القانوني يتطلب مجموعة من الإجراءات أهمها التحقق من تمتع المبعوث الدبلوماسي بالحصانة في وقت ارتكاب الجريمة ودرجة هذه الحصانة، وأن الحصانة التي يحملها تنسجم مع تعريف الدبلوماسي كما وردت في اتفاقية فيينا، وبعد كل هذا فإنْ ثبت لها أنه متمتع بالحصانة حسب القانون فلها أن تطلب رفع الحصانة والمطالبة بمحاكمته أمام القضاء الأردني كما حصل في أكثر من حادثة دولية ومنها اعتداء دبلوماسي أميركي على باكستانيين أثناء فترة رئاسة "أوباما".
حسب وقائع الحادث فإن القاتل وفقاً لأحكام القانون الجنائي الأردني قد تجاوز حدود الاعتداء المزعوم والذي تم عليه، ذلك أن فعله بقتل طفل في السابعة عشرة من عمره يهدده بمفك على "فرض صحة الزعم"، يخرج بحسب القواعد العامة للقانون الجنائي عن فعل الدفاع عن النفس لعدم تناسب الدفاع مع الفعل. وهنا يثور التساؤل: هل يجوز محاكمة هذا القاتل وكيف؟ أولاً: يمكن ملاحقته أمام محاكم العدو الصهيوني "مع التحفظ على مسألة الاعتراف بالمحاكم الصهيونية"، فإنه يجوز لذوي الضحايا ملاحقة القاتل أمام محاكم العدو الصهيوني، وأيضاً يجوز لمن يحمل جنسية ثانية غير أردنية من ذوي الضحايا أن يلاحق القاتل في محاكم الدولة التي يحمل جنسيتها وذلك ما أيدته المحامية المجازة أمام المحاكم الإنجليزية ماري نزال بطاينة المختصة في ملاحقة قادة الكيان الصهيوني في أوروبا.
هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية السياسية؛ فإن الحكومة لم تكن بمستوى الحدث، وقد أربكها إعلامياً وسياسياً وقانونياً، ولم يكن ليضيرها طلب تأخير سفر القاتل أياماً معدودة للتأكد من حقيقة الأمور، أو على الأقل لمحاولة عقد صفقة دبلوماسية شاملة تضمن الحفاظ على كرامة الأردنيين بشكل عام والضحايا بشكل خاص، وكما أشرنا كان لها أن تطلب، ولو من باب رفع العتب، إسقاط الحصانة عن القاتل أمام فداحة الفعل الجرمي الذي اقترفه.
الحكومة اليوم تحاول تدارك هذا الأمر والوقوف على خياراتها المتاحة، ويبقى أن نقول إن متابعة هذه القضية شعبياً وحكومياً هو التعبير الوطني الأهم للدولة الأردنية وللشعب الأردني، ليس فقط عن رفضهم للاعتداء الآثم للقاتل، ولكن أيضاً رفضهم للبجاحة والصفاقة التي تعامل بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني مع الحادث.