السفر يفقد رهبته وهيبته

قبل تطور المواصلات ووسائل الاتصال إلى ما هي عليه الآن، كان السفر من القرية إلى المدينة حدثاً كبيراً، والسفر إلى بلد أجنبي حدثاً أكبر عند المسافر والأسرة والقرية والمدينة. كانت الأسرة والأصدقاء والجيران يجتمعون في بيت المسافر لوداعه إلى المدينة، أو يقضون شطراً كبيراً من ليلة السفر إلى البلاد البعيدة في وداعه وتخفيف توتره من حالة الطوارئ التي تنشأ عند السفر.اضافة اعلان
وعندما يعود المسافر من المدينة، كانت الأسرة تستقبله بالأحضان، والأصدقاء يزورونه لتهنئته بالسلامة. لكن القرية كلها كانت تودعه عند السفر إلى بلاد بعيدة، وتستقبله عندما يعود منها. وكان المسافر إلى المدينة أو إلى البلاد البعيدة يعود محملاً بهدايا وقصص وحكايا عما شاهد في المدينة أو البلاد لا تمل الأسرة والأصدقاء والناس من سماعها "لغرابتها".
أما اليوم، بعد تطور المواصلات ووسائل الاتصال وفوريتها وبالصوت والصورة بالتلفون الخلوي، فقد فقد المسافر هذه الميزة. صار يعود صفر اليدين أو خالي الوفاض كما يقولون؛ أي لا قصة ولا حكايا لديه ولا هدية معه. صار كأنه لم يسافر أو في الجوار لأن تلك القصص والحكايا والأخبار صارت تسبقه قبل أن يعود إلى القرية أو المدينة، والأسواق والمولات تعج بالسلع نفسها.
لقد أصبح السفر اليوم أمراً عادياً جداً إلى أي مكان في العالم، إلا إذا كان إلى المريخ. لم يعد الأصدقاء والجيران أو الناس يهتمون بذلك. وربما لا يدرون بالسفر. كما لا يرافق المسافر إلى المطار أو استقباله فيه بعد العودة سوى الأسرة أو بعضها لأن وسائل الاتصال الفورية وبالصوت والصورة أزالت القلق من السفر عند الطرفين. صار المسافر وكأنه لم يغادر. لم يعد للسفر الهيبة أو الرهبة اللتان كانتا تحيطان به في الماضي. ولم يعد يقلق أحد. صار السفر متعة شخصية في "تغيير الجو"، أو الطعام والشراب، أو التسوق، أو البزنس.. أو كما يقول أحد المفكرين: "صرنا نسافر لأنه لا يوجد مكان نذهب إليه".
لقد صدقت نبوءة المفكر الإعلامي مارشال مكلوهان عندما قال: "إن العالم اليوم أشبه بقرية صغيرة". صار كل منا متعولماً بمقدار؛ دري بذلك أو لم يدر. وصار الإنسان يتكون من ثلاثة مداميك أو طوابق: المدماك أو الطابق المحلي، والمدماك أو الطابق الوطني أو القومي، والمدماك أو الطابق العلوي أو العولمي، المتفاوتة في الارتفاع بين شخص وآخر. صار كل من يوجد لديه تلفاز أو كمبيوتر أو صلة بالإنترنت أو تلفون خلوي أو بطاقة ائتمان أو يتعلم أو يعمل في الخارج أو يعرف لغة أو لغات أجنبية يتعولم.
بل إن المدارس والجامعات المستقبلية النظرة صارت تعد تلاميذها وطلبتها للسباحة في تيار العولمة، لأن فرص الدراسة والعمل صارت متاحة عالمياً، فإذا كنت تلميذاً متفوقاً في مدرسة فإن جامعة متطورة قد تمنحك بعثة للدراسة فيها. وإذا كنت متفوقاً في البرمجة أو في الهندسة أو في الطب.. فإنك قد تُطلب أو قد تجد عملاً في اليابان أو في أوروبا أو في أميركا. ألم تعين شركة "نيسان" العملاقة لصناعة السيارات السيد شارل غصن اللبناني لإدارتها وإنقاذها؟ إن كثيراً من محاسبي الشركات الأميركية العملاقة هنود يعملون من بلدهم لحسابها.
وحسب خبيرة السياحة أنتيجي مونشوزن، فإن نحو ثلاثة مليارات وثلاثمائة مليون من الناس سافروا بالطائرات العام 2014. لكنني أعتقد أن هذا الرقم سيتراجع نتيجة الإرهاب، أو عندما تصبح برامج الحقيقة التشبيهية أو الافتراضية (Virtual Reality) عملية؛ حيث يستطيع من يرغب في زيارة موقع ما الدخول إليه ومعاينته وهو في مكانه. كما سيتسع العلاج عن بعد مما قد يؤدي إلى انخفاض كبير في السياحة العلاجية.
أقول أقوالي هذه وأختم بقول لويس ممفورد (1825-1975)؛ المربي والفيلسوف الاجتماعي الأميركي: "استرجع رجليك كوسيلة للسفر، فالماشي يعتمد على الطعام كوقود ولا يحتاج إلى كراج أو موقف لسيارته". وأضيف: والمشي أفضل علاج للسكري والضغط والزهايمر لأنه ينشط الدماغ ويحرر العقل ويريح النفس.