السلفية المعاصرة: قراءة في المفهوم والأبعاد (1)

د. عصر النصر*

إنّ وجود الحق كقيمة عليا في دنيا الناس، من ضروريات البقاء، ومما لا تصلح حياتهم إلا به.
ومن مقومات البقاء، البحث عن الحق واللجوء إليه. وقد مثل هذا الأمر قدرا متفقا عليه بين الناس على مختلف انتماءاتهم. ففي كل فكر قيمة عليا يحتكم إليها أصحابه. وحتى أصحاب نسبية الحق، يلزمهم القدر المتقدم حيث يدخلون في تقريره ولا بدّ.اضافة اعلان
مثل الإسلام بمذهبيّته الشاملة حقا مطلقا، يتعالى على تغير الزمان وتعدد المكان؛ فهو من علم الله وأمره، بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم لإصلاح خلقه "أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ" (الأعراف، الآية 54). فبالإسلام تقوم حاجات الناس وتصلح أحوالهم في دينهم ودنياهم. وصلاح الإسلام عند من يعتقد به، هو أمر بدهي، وهو من علامات صحة الإيمان بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولاً. وهذا الاعتقاد يقوم على ركيزتين اثنتين، هما:
- أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من تعاليم الإسلام وحي متلقىً من علم الله. وعلم الله حقٌ لم يسبق بجهلٍ، ولن يلحقَهُ نسيانٌ أو اختلافٌ. وما كان هذا شأنه فهو حق مطلق.
- أن ما جاء به النبي صلى الله عليه هو الدين الخاتم، الذي جاء للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة.
وما يكتنزه الإسلام من حق لا يمنع، بحال من الأحوال، اختلاف الناس فيه أو عليه؛ فإن ما يعرض للتصديق أو التصور عند الناس من العوارض كثير جدا ومتنوع. ومن هنا تنوعت أساليب الشرع في التحذير من هذا الاختلاف، إما تنفيرا عنه، أو ببيان الحق ونصب الأدلة عليه. وعليه، فإن أولى الناس بالإسلام من تحقق به علما وعملا، عقيدةً وشريعة. وقد رسم الإسلام خريطة للمنهج الحق، ونصب له علامات، ومن ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي حديث آخر: "قيل من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة". وفي حديث: "عليك بالسواد الأعظم".. وهكذا في نصوصٍ أُخر متعددة ترسمُ الطريقَ لمن أراد الالتزام بالإسلام وتمثل حقيقته.
ففي كل حديث من هذه الأحاديث ملمح من ملامح تحقيق الإسلام. فالالتزام بما جاء به صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والعمل به، ثم الأخذ بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، والسير على طريقتهم في التعامل مع نصوص الوحي، ثم الاحتجاج على ذلك، هي حقائق الإسلام. وبمقدار التحقق بها يكون القرب منه أو البعد عنه. ومن معاني هذه الحقائق نشأت أسماءٌ ذات معان معينة وأبعاد تاريخية، كاسم "أهل السنة والجماعة"، و"أهل الحديث"، و"أهل الكتاب والسُنّة"، ثمّ "الحنابلة" و"السلفية". كما ظهرت أسماء ذات معان عقدية وأبعاد تاريخية تعبّر عن مخالفة ما استقر من معاني حقائق الإسلام في أصل أو أكثر؛ فكانت الأسماء تلائم طبيعة المخالفة. فالخوارج مثلا، اسم يتعلق بمفهوم الجماعة؛ و"الشيعة" هم الذين خالفوا ابتداءً مفهوم الصحبة وما يتعلق بها من أحكام؛ ثم "الجهمية المعطلة" وهو اسم أطلق على من عطل الله تعالى عما يستحقه من الأسماء والصفات، وهكذا في أسماء متعددة تمثل صور المخالفة والاختلاف.
مثّل الأخذ بنصوص الكتاب والسُنّة والعمل بها باعتماد فهم الصحابة والسير على طريقتهم، صفةً مميزة لمن سار عليها وعمل بها، وعلامة بارزة له. ومن بدهيات القول إن من يمثل حقيقة الإسلام هو من حقّق معانيه على ضوء الأصول المتقدمة. وعند تحقيق النظر نرى أن أهل السُنّة هم أولى الناس بهذه النسبة والانتساب، ولا أدل على ذلك من هذا الكمّ الهائل من الآثار التي بين أيديهم، والتي تشكل تصورهم وترسم منهجهم في سائر أبواب الدين. وهذا ما لم يكن لغيرهم.
ومن الجدير بالذكر التنبيه على أن الخلاف السابق هو ذو طابع عقدي، ومن رحمه تمايزت المناهج  بين المختلفين. فبينما يعلن أهل السنة منهجهم "كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"، تقابلهم المعتزلة، كأول مدرسة ذات منهج مخالف؛ إذ يعلن مؤسس هذه المدرسة "واصل بن عطاء" أن الحجة عندهم: "كتاب ناطق وسُنّة صحيحة وحجة العقل والإجماع". ثم ما لبث هذا الترتيب يختلف عند أتباع مدرسة الاعتزال؛ حيث قدّم القاضي عبدالجبار حجة العقل على الكتاب والسُنّة والإجماع. ويظهر مكمن الخلل في الحالتين، عند إبراز العقل كحجة مستقلة خارجة عن حدود الوحي أو مقابلة له، بينما كان هو عند أهل السنة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، من مضامين الخطاب الشرعي، وجزءا لا يخرج عنه. ولا شك في أن نصب الخلاف بين العقل والوحي أمرٌ له آثاره السلبية على المنظومة الفكرية على مستوى المنهج الإسلامي بعمومه. ومن بين هذين المنهجين ظهرت مناهج حاولت أن تتوسط الخلاف، من خلال قدر من المواءمة بين الوحي والعقل، كما فعلت ذلك الأشاعرة. إلا أن أصل الإشكال بقي قائمًا، وهو إظهار العقل كحجة مستقلة، وإخراجه عن منظومة الاستدلال وخطاب الشرع. ومن هذا التوسط خرج التباين وظهر الاختلاف بين أتباع المدرسة الأشعرية؛ فكان المتقدمون منهم أقرب إلى منهج السلف، ومن معالم ذلك القرب الأخذ بحديث الآحاد. أما المتأخرون، كأبي المعالي ومن جاء بعده، فكانوا أقرب إلى منهج المعتزلة، ومن مظاهر ذلك ترك الأخذ بحديث الآحاد.
ما تقدم عرضه، يبينُ لنا أن الخلاف بين المدارس الإسلامية إنما يعود إلى الاختلاف في العقائد. ومن وراء ذلك الخلاف في منهج التقرير والاستدلال. وقد سارت الفرق في تقرير أمور الدين عبر سنوات مضت، على وفق ما تقرر عند كل فرقة. ومن هنا كان إحياء الوحي والعمل به من أولويات علماء أهل السنة والحديث، وذلك لإدراكهم أهمية الوحي في بقاء الأمة واستمرار حياتها.
إن ظهور المناهج المختلفة إنما هو فيما وقع فيه الخلاف؛ كالعقيدة والفقه، مع اختلاف الأحكام المترتبة على كلٍ. وأما سائر شؤون الأمة، فقد كانت محل اتفاق، لاسيما مع وجود العقد الناظم والحكم السائد.

*كاتب أردني