السلفية وأسئلة المشاركة السياسية (2)

أسامة شحادة*

استكمالاً للخواطر والملاحظات على ندوة "السلفيون وأسئلة المشاركة السياسية"، والتي نظمها مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية، يوم 8 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي:اضافة اعلان
تساءلت في نفسي؛ هل الذين يطالبون السلفيين والإسلاميين باحترام قواعد اللعبة السياسية والديمقراطية، يعنون ما يقولون فعلاً؟ وذلك لأن الواقع يؤكد كل يوم أن الأنظمة الحاكمة، وبتأييد من القوى العلمانية والديمقراطية والمدنية –زعموا– أنها هي من تتلاعب دوماً بقواعد اللعبة الديمقراطية، بطريقة أصبحت القاعدة الثابتة والوحيدة فيها عدم وجود قواعد. وقد أثبت ذلك عمرو حمزاوي، الباحث –قبل أن يصبح نائباً– إذ قال عن الإسلاميين: "كلما أبلوا بلاءً حسناً، أعيدت كتابة قواعد اللعبة لاستبعادهم". وقد رأينا في الأردن كيف اصطف التقدميون والمناضلون خلف بشار الأسد (الديمقراطي) على الصعيد الخارجي، وكيف تخندقوا في خندق الحكومات الأردنية في قانون الانتخاب، ليس عشقاً لها، بل كرهاً وبغضاً في ديمقراطية تمنح الإخوان المسلمين التفوق السياسي الذي يستحقونه ديمقراطياً!
أما في مصر، فرأينا احترامهم لنتائج صناديق الانتخابات واللعبة الديمقراطية؛ إذ رأينا تهاني الجبالي، عضو المحكمة الدستورية، تطلب تمديد حكم الجيش! ورأينا أمثال محمد حسنين هيكل يطالبون بحكم عسكري لمدة 3 سنوات! ورأينا تحريضهم القضاء لتقويض البرلمان المنتخب! ورأينا محاولات إفشال اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور.. والأمثلة كثيرة!
وهذا التلاعب العلماني والحكومي بقواعد اللعبة الديمقراطية، هو أحد جوانب الخلل الكبيرة في ما يقدم على أنه الحل الأمثل للبشرية؛ فلا توجد قواعد مثلى على مستوى العالم، وكل بلد يضع قواعده الذاتية بما يناسب مجتمعه؛ هذا على المستوى النظري أو الذي يفترض أن يكون، لكن في الواقع دائما ما تكون هذه القواعد لصالح فئات محددة من المجتمع على حساب أخرى. والذي يحكم وضع هذه القواعد في الحقيقة هو النتائج المطلوبة من الانتخابات، وإذا كانت تتميز في العالم الأول بمعايير أعلى من النزاهة، فالحال عندنا أن النزاهة تأتي في مرتبة متدنية.
هذا ينقلنا إلى نقطة مهمة يكررها البعض، وهي طلب الضمانات من السلفيين ألا يحدثوا تغييرا يذكر في الواقع إذا وصلوا إلى السلطة. وهذا طلب غريب وعجيب جداً، فالسلفيون خصوصاً يرفعون برنامج عمل معلنا، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية لأنها الأصل في بلادنا. ألم يكن الملك المؤسس عبدالله الأول يصدر توجيهاته لرئيس الوزراء والوزراء بالحرص على صلاة الجمعة والعيدين وصيام رمضان، وأن ينبه بذلك على أهل القرى والمخاتير ورؤساء العشائر؟ وأليس شعار المملكة: "الله، الوطن، الملك"؟ فالسلفية برنامجها وصل ما انقطع من تحكيم الإسلام في شؤوننا بالعلمانية وأفراخها، وهو برنامج معلن للناس وعلى أساسه يتم انتخابهم، فكيف يطالبون بعدم تطبيق برنامجهم؟ والغريب أن هؤلاء المحللين العلمانيين الديمقراطيين يعيبون على الإخوان المسلمين في مصر الآن أنهم كذبوا على الجماهير وخدعوها ولم يطبقوا الشريعة! ما هذه الديمقراطية العرجاء التي تعيب عليك ما تطالبك بضمانات لعدم تنفيذه؟
إن من التزوير الفاضح جعل تطبيق الشريعة مناقضاً لحقوق الإنسان والمرأة والتعددية. وتطبيق الشريعة ليس كما يشوه الإعلام المأجور، بأنه عودة إلى "تورا بورا"، كلا؛ تطبيق الشريعة يبدأ بفرض العدل والحق ومكافحة الفساد الأخلاقي والقيمي الذي يفسد السياسة والاقتصاد. ومن ثم، حين تتوفر مقومات الحياة الكريمة لكل مواطن، تطبق العقوبات الرادعة بحق المعتدين على الحق العام والخاص.
أما الخلاف مع المنظومة الغربية لحقوق الإنسان والمرأة والتعددية، فهو في جزئيات تحاول الرؤية العلمانية عولمتها على البشرية بما يخالف الفطرة السوية والأحكام الدينية للعديد من الديانات. فالإسلام رفع من شأن المرأة والإنسان، لكن باسم حقوقهما من منظور علماني، يراد تنجيسهما بأوحال البهيمية والدونية بالحرية الجنسية والإلحادية. ولذلك، لو صدق هؤلاء مع أنفسهم ونزعوا ورقة "السولفان" البراقة التي يخبئون بها سمومهم، وعرضوا على الناس علانية مشكلتهم مع الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان والمرأة، لظهرت الحقيقة ولانكشف مقدار الزيف خلف هذه الدعاوى. وأتمنى أن أجد من هؤلاء العلمانيين من يقوم بتعداد النقاط التي يرفضونها في الرؤية الإسلامية، لنضع النقاط على الحروف، فهل يفعلون؟!
والعجيب أن هؤلاء المراقبين والمحللين لا يطالبون بأي ضمانات من الأنظمة القائمة أو الأحزاب والتيارات العلمانية بعدم علمنة ما تبقى من إسلام في مجتمعاتنا، كما في تصريحات الرئيس التونسي تجاه الشريعة الإسلامية والتيارات الإسلامية والمتطرفة منها.
ثم، من هو المطالب بالضمانات؛ من غدر بالأمة وحرف مسارها، أم من يسعى في إعادة الأمور إلى نصابها؟ ألم يُسلّم العلماء الحكم والسلطة للعلمانيين بحسن ظن أنهم يريدون خدمة الأوطان وسعادة الشعوب؛ فمثلاً ألم يأخذ العلماء العهود والمواثيق فى دار المحكمة على محمد علي باشا ليحكم فيهم بالعدل، ويرجع اليهم فى كافة أمور الحكم فى أيار (مايو) 1805، فماذا كانت النتيجة؟ انفرد محمد علي، مؤسس العلمانية ورائدها في مصر، بالحكم في ذاك البلد، وتخلص من كل الزعماء الذين أتوا به إلى كرسي الحكم، بالغدر والاغتيال، وتغيير هوية الأمة ونشر العلمانية فيها ومحاربة الإسلام. وهو المنهج الذي سار عليه كثير مِمّن وثقت الأمة بهم: جمال عبدالناصر، وأحمد بن بيلا، وبورقيبة.
وفي حكاية الضمانات ووجوب قبول السلفيين بالتعددية وحقوق الأقليات والمرأة بحسب المنظور الغربي، نجد أنفسنا أمام سؤال بديهي: ماذا يتبقى لنا من السلفية بعد ذلك؟! ولماذا لا نصبح علمانيين إذن وننتهي من هذه المسرحية السمجة التي تسمى "التعددية"؟!
هل الليبرالية تقبل فقط بحرية الكفر والإباحية؛ بالدفاع عن حقوق عبدة الشيطان والإيمو والملحدين والشواذ والتجديف ضد المقدسات باسم الإبداع والفن، ويتسع الطرح الليبرالي لكل تجاوزات هذه الأفكار، ولا يجد فيها مشكلة لا مع حقوق إنسان ولا كرامة المرأة والأقليات، ولكن ليبراليتهم وتعدديتهم لا تتسع لرفض السلفيين والإسلاميين للمنظور العولمي العلماني لحقوق الإنسان والمرأة والأقليات؟
والسؤال الذي نطرحه على العلمانيين: ما هي حدود حقوقنا كسلفيين في رفض رؤيتكم؟ وما هو مدى التعددية المقبول عندكم حتى لا نتجاوزه؟ ولماذا لا نملك الحرية المطلقة في رفض ثوابتكم، مع مناداتكم بحرية كسر ثوابت الشريعة التي تسمونها "تابوهات"؟.. وللحديث صلة.


*كاتب أردني