السلمية الخضراء تخوض الحرب

جوزيف جوفي عضو مجلس تحرير صحيفة Die Zeit
جوزيف جوفي عضو مجلس تحرير صحيفة Die Zeit
جوزيف جوفي* هامبورج ــ الآن، تخرج ألمانيا من أرض الأحلام، ويقود الطريق حزب الـخُـضر، الصورة الرمزية الأبعد عن الواقعية. قبل أربعين عاما، نشأ الخضر من العدم حاملين معهم إيديولوجية متشددة: لا أسلحة نووية أميركية، ولا طاقة نووية، ولا استخدام للقوة. سمها “السلمية البيئية” أو “السلام فوق كل شيء”. في ثمانينيات القرن العشرين، حشد الخضر الملايين ضد نشر الولايات المتحدة صواريخها متوسطة المدى وأعاقوا العمل في المواقع النووية المدنية. لكن موقفك من الأمر يعتمد على الجانب الذي تؤيده. اليوم، أصبح حزب الـخُضر أحد الأعمدة التي تقوم عليها الحكومة الائتلافية الألمانية الثلاثية الأحزاب. ويشغل زعيما الحزب أنالينا بيربوك وروبرت هابك منصبي وزير الخارجية ووزير الاقتصاد على التوالي. مثلهم كمثل الملكة البيضاء في رواية “أليس في بلاد العجائب”، كان الخضر ذات يوم يؤمنون بقدرتهم على إنجاز مهام مستحيلة في فترة وجيزة. وكذا كانت حال معظم الألمان. فسوف تحصل ألمانيا على كميات وفيرة من الغاز الرخيص من روسيا، وسوف تغـلـق بأمان آخر ثلاث محطات لتوليد الطاقة النووية بحلول نهاية عام 2022، وتستعيض عن النفط والفحم بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وبوسع ألمانيا أيضا أن تترك جيشها يبلى ويتفسخ، فتقلصه من 500 ألف إلى 180 ألف. وسوف يعمل الرايخ السابق “كقوة للسلام” مدينة بالفضل لثقافة إنكار الذات (العسكرية). وسوف تعمل التجارة والاستثمار على ترويض روسيا وغيرها من المعتدين. وتسود الفضيلة المصنوعة في ألمانيا. ثم انقض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أنزل بأوكرانيا قدرا لا يمكن تصوره من القسوة الوحشية. وبوغـت الحزبان الحاكمان التقليديان ــ الديمقراطي الاجتماعي والديمقراطي المسيحي. هل نرسل الدبابات والمدفعية البعيدة المدى؟ لا ينبغي لنا أن نُـغـضِـب الدُب الروسي الذي كان آنذاك يزود ألمانيا بنحو 55 % من استهلاكها من الغاز ــ وهي أعلى حصة في الاتحاد الأوروبي. هل نلغي التحول إلى الطاقة الخضراء الذي فرضته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي دامت ولايتها أربع فترات ؟ مستحيل. لكن قيادة الـخُـضر خضعت لانقلاب محير للعقول، فتحولت بسلاسة من السلمية إلى العدائية، من معاداة أميركا إلى معاداة بوتن، وبسرعة مذهلة. حدد هابك النغمة الجديدة: “لا ينبغي للإيديولوجيا أن تعترض سبيل إطالة عمر محطات الطاقة النووية”. وبعد زيارة قامت بها إلى حقول القتل في أوكرانيا، تحدثت أنالينا بيربوك باسم الجميع: “كنا لنصبح محل هؤلاء الضحايا”. في عام 2015، حذرت بيربوك من أن بوتين قد يستخدم الغاز كسلاح. وفي أعقاب الغزو، قالت: “لقد استيقظنا في عالم مختلف. ولا يجوز لنا أن نحني رؤوسنا ونتفادى المسؤولية، بل يجب علينا أن نتحمل المسؤولية”. بعد عودته من أهوال ساحة المعركة، دعا نائب البوندستاج (مجلس العموم) الشاب روبن واجنر إلى تقديم أسلحة ثقيلة حديثة، بالإضافة إلى الدفاعات الجوية، والعربات المدرعة، وتكنولوجيا الاستخبارات. وحتى أحد كبار السن بين النواب، دانييل كوهين بنديت، الذي يبلغ من العمر 77 عاما، تسامح مع الحرب: “أشعر بالألم لمجرد معاينة الواقع، وليس لاضطراري إلى مواجهته”. لكن الـخُـضـر من أمثاله واجهوا الواقع، مما يجعلهم عند هذه المرحلة “الحزب الأكثر عقلانية في ألمانيا”. كيف يمكن حل لغز الحزب الذي تشبث لفترة طويلة بما يسمى “السلمية البيئية” باعتبارها ديانة علمانية؟ لماذا تتهم أنالينا بيربوك الرئيس الروسي بوتن “بانتهاك كل الاتفاقات التي صاغتها أوروبا لضمان السلام”؟ لماذا ينقلب الـخُـضـر، الذين تعبدوا طويلا على مذبح السلمية، على روسيا؟ يتمثل أحد الأسباب في ما يسميه الألمان “معيارية الحقائق”. أو كما كان جون ماينارد كينز ليعبر عن ذلك: “عندما تتغير الحقائق، أغير رأيي”. الواقع أن الحقائق أليمة. إذ يحاول بوتن استعادة الإمبراطورية السوفييتية القديمة، وبهذا يهدد حقبة غير مسبوقة من السلام في أوروبا دامت 77 عاما. هل يأتي الدور على مولدوفا ودول البلطيق بعد أوكرانيا؟ الواقع أن البولنديين، الذين وقعوا ضحية لروسيا بشكل روتيني طوال التاريخ، لهم كل الحق في الخوف من جيوش بوتن المحتشدة على حدودهم الشرقية، الأمر الذي ينذر بالسوء لجارة بولندا في الغرب، ألمانيا. وعلى هذا فإن المنطق الاستراتيجي يستلزم إعادة التسلح والردع، بالإضافة إلى تزويد أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة أخيرا. ولكن على الرغم من السياسة الواقعية، ما يزال الحرس القديم على اليسار متمسكا بالحقائق العتيقة في السياسة الألمانية الشرقية. تَـعـاوَن، ولا تواجه. السلام يتفوق على القوة. دعونا نعطي بوتن مخرجا، دعه يحتفظ بمكاسبه حتى لا يفقد ماء وجهه ويلجأ إلى تصعيد الأمور. لن يؤدي تزويد أوكرانيا بالأسلحة إلا إلى إطالة أمد المذبحة، كما لو كانت أوكرانيا تقصف المدنيين الروس، والمدارس والمستشفيات الروسية. في تناقض صارخ، تُـعـلِـن بيربوك: “إن كنت لا تشعر بالذعر (إزاء هذه الحرب العدوانية)، فإما أنك مضلل أو متبلد الحس”. التفسير الثاني يتعلق بالأجيال. لقد شب قادة الـخُـضر اليوم عن الطوق في عالَم حيث اعتاد الشياب أو الراحلون من أسلافهم على امتلاك السلطة السياسية والثقافية. بعد أن ورثوا دولة ملطخة بأعظم الجرائم ضد الإنسانية، كان المنتمون إلى هذه الفئة العمرية بعد الحرب مستميتين في محاولة استعادة القيمة الأخلاقية لوطنهم. كان هذا يعني التحول بمقدار 180 درجة بعيدا عن فكر الفوهرر. السلام، وليس الدبابات؛ المجتمع، وليس الغزو؛ الخير، وليس الجشع. وبهذا، قدمت ألمانيا ذاتها على أنها قوة أخلاقية عظمى، وكان لهذا مردود عملي. عندما أزعجهم إصرار الولايات المتحدة على مساهمتهم بقوات في مسارح عسكرية متعددة، ما كان من القادة الألمان إلا أن تذرعوا بماضي بلدهم الرديء: ليس نحن! في أحسن الأحوال، سيرسلون فرقا رمزية بينما تتحمل الولايات المتحدة والمملكة لمتحدة العبء الأكبر. لا يعاني الجيل الجديد من الـخضر وناخبوهم من الشباب تحت وطأة العبء الأخلاقي الذي تركه كبارهم. إنهم لا يحتاجون إلى الاحتماء خلف الماضي وإلقاء المواعظ حول التفوق الأخلاقي المستند إلى النزعة السلمية لإثبات تخليص وافتداء ألمانيا. بحلول الوقت الذي شبوا فيه عن الطوق، كانت ألمانيا استعادت قبل فترة طويلة قيمتها الأخلاقية. الواقع أن ألمانيا، الدولة الديمقراطية الليبرالية الراسخة، والمتأصلة بأمان في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لم تعد في احتياج إلى الاستمرار على وضعها كخارج عن القانون خضع للإصلاح. كان بوتن مفيدا في هذا الصدد بطبيعة الحال. الواقع أن أنتون هوفريتر، الرئيس السابق لحزب الـخُـضر، نَـفَّـثَ عن غضبه قائلا إن بوتن يخوض “حربا عدوانية إمبراطورية استعمارية. يبلغ هوفريتر من العمر 52 عاما. قبل جيل، كان الـخُـضر والمنتمون إلى اليسار في عموم الأمر لينكمشوا مرتعدين خلف جرائم النازية: لقد تعلمنا درسنا! اليوم، لا يقف في صف بوتن غير اليمين المتطرف واليسار المتطرف. حققت الفئتان معا 17 % في أحدث استطلاع؛ في حين حصل الـخُـضر على نسبة صلبة بلغت 22 %. المسألة لا تتعلق بإمبريالية بوتن فحسب. لا يحتاج الـخضر الجدد إلى التبشير الأخلاقي المريح القائم على الماضي؛ إنهم المستفيدون من الافتداء الذي اكتسبه جيلان سابقان. مع نجاح هذه الزمرة في توطيد سلطتها، ربما تشب البلاد بالكامل عن الطوق. اليوم، يريد نحو 70 % من الألمان الاستمرار في تشغيل محطات الطاقة النووية. ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali *جوزيف جوفي عضو مجلس تحرير صحيفة Die Zeit، وهو مدرس السياسة الدولية والفكر السياسي في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة. حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.اضافة اعلان