السوداني بهنس: الموت على قارعة الإبداع

في العالم العربي، تأتي الأشياء بالمقلوب؛ فالحجة المنطقية تكون وبالاً على صاحبها، والحقيقة تذهب بأهلها إلى السجن، والموهبة تتعثر في الطرق إلى المحكمة، والقاتل مقبول اجتماعيا، أما الصادق، فقد يذهب بفرق سعر الدولار اليومي.اضافة اعلان
لا شك في أن المنطق يفقد صوابه على بوابة العالم العربي الذي يظن العالم أنه بدأ ربيعا أخضر لكي يتخلص من آثام الماضي، غير أننا نراه يدخل في سلسلة أخرى من اجترار الخطايا، بما لا يدع مجالا للشك للتأكد من أنه لن يغادر متردم السيرة العربية الرديئة.
إنها قصة الفن والإبداع والعطاء، قصة الفنان السوداني محمد حسين بهنس، الذي لم يجد لحداً لأطرافه الباردة سوى شوارع القاهرة المقسمة بين موالاة ومعارضة، لكي يدفن نفسه الأخير فيها، ويمضي غير آسف على شيء، سوى على أمة اختارت أن تضع رأسها بين الأموات، وأن تنسى مجدا إبداعيا قديما، سطرته على اتساع قارات العالم القديم أجمعها.
بهنس، الذي تتزين جدران قصر الإليزيه الفرنسي بلوحاته المبدعة، لم يتركه الفقر والحاجة والجوع، ليتم مشروعه الإبداعي الذي قد يُشكل فتحا في عالم الفن الغرافيتي؛ إذ اضطر إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيره موتا من البرد في شوارع العاصمة المصرية القاهرة خلال موجة البرد الأخيرة التي ضربت المنطقة.
لم يكن يعلم أن عاصمة الفن العربي يمكن لها أن تكون قاتلة هي الأخرى، وأن الأقوال لا يمكن لها أن ترقى إلى مصاف الأفعال، وأن كل شيء يمكن أن يكون قاتلا، بدءا بالحرف والخط، وليس انتهاء بما يمكن أن تفعله القنبلة النووية.
حين جاء القاهرة قبل عامين من إزهاق روحه، كان يظن أنه يحقق فتحا كبيرا في مشروعه الإبداعي؛ فها هو يدخل قاهرة المعز بكل المجد الذي تصوره يوميا. لم يدر في خلده أن المدينة سوف تلفظه من جوفها، وسوف يضطر إلى أن يترك البيت الذي يستأجره لضيق ذات اليد، وأن الشارع، هو فقط، ما سيلمّ أطرافه الباردة التي لن تقوى على المزيد من المقاومة.
بهنس لم يحتمل ظلم ذوي القربى، ولم يستطع أن يتصالح مع فكرة أن عاصمة عربية اختارها وآوى إليها، تلفظه بكل تلك البساطة. لذلك، آثر أن يموت متجمدا في موجة الصقيع، قبل أن يعترف أن العالم العربي طارد للإبداع والثقافة والفن.. وطارد للحياة بمعناها الأشمل.
لن نستطيع أن نهضم فكرة أن كاتبا وفنانا كبيرا مثله، لا يستطيع أن يؤمن كلفة نومه في منزل دافئ وآمن، بل على العكس تماما، تضطره الظروف إلى ترك منزله والعيش متشردا في شوارع القاهرة وميدان التحرير، ليقضي بطريقة بشعة، وحسب اشتراطات حياة الغابة.
أيها السادة: أهلا بك في العالم العربي!

[email protected]