السياسات الاقتصادية ما بعد أزمة كورونا

لا ينكر أي من المشتغلين في الشأن الاقتصادي وخبرائه حقيقة أن ملامح السياسات الاقتصادية لمرحلة ما بعد أزمة "كورونا المستجد" ستكون كما كانت قبلها.اضافة اعلان
لا يقتصر ذلك على الخبراء وصناع السياسات والمعلقين الأفراد، بل شمل أيضاً المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية والإقليمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى جانب المؤسسات الاقتصادية والمالية الأوروبية والآسيوية.
وفي الوقت الذي لا يوجد خلاف على أن تغييرات جوهرية ستحدث في آليات عمل الاقتصاد العالمي والاقتصادات الوطنية، فإنّه سرعان ما تتباين المواقف، عندما يتم تشريح طبيعة التغييرات المطلوب إجراؤها على السياسات الاقتصادية جرّاء الأزمة التي خلّفها فيروس "كورونا المستجد".
نشير إلى ذلك، وكلنا أمل في أن لا تضيّع البشرية فرصة تاريخية أخرى لإجراء تغييرات جوهرية على الملامح الأساسية للسياسات الاقتصادية، بعد أن ضاعت فرصة الأزمة المالية العالمية 2007/2008 وما تلاها من سنوات، وتبعها في منطقتنا العربية إضاعة فرصة الربيع العربي، التي وضعت السياسات الاقتصادية (النيوليبرالية) على المحك، حيث نتج عنها تفاوت اقتصادي واجتماعي كبير، وفقر واسع، وبطالة مرتفعة، وغابت المساواة والعدالة عن نظم الرعاية الصحية، ونظم التعليم في مختلف مراحله.تركزت السياسات الاقتصادية التي سادت في غالبية الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل على جملة من المعايير (النيوليبرالية) – نتيجة التأثير القوى للمؤسسات المالية الدولية – على السياسات المالية والنقدية التقشفية (متشددة)، إضافةً إلى التوسع في خصخصة المؤسسات، وشملت كذلك تحرير الأسواق من القيود الحكومية وتحرير التجارة والأسعار، وإطلاق العنان لدور متنامي للشركات، وخاصةً الكبرى منها.
ويقصد بالسياسات التقشفية جملة من الإجراءات التي تنفذها الحكومات لتقليص الإنفاق العام، بهدف تخفيض عجز الموازنات العامة للدول. وعادةً ما تشمل هذه التخفيضات الإنفاق على الخدمات والحقوق الأساسية للمواطنين، مثل الرعاية الصحة والتعليم والنقل وغيرها، ووقف الدعم الذي تقدمه الحكومات لبعض السلع الأساسية، إضافة إلى الضغط على أجور العاملين في القطاعين العام والخاص. بعد الأزمة التي ضربت الاقتصاد العالمي قبل ما يقارب عشر سنوات، والاحتجاجات الاجتماعية في العديد من دول العالم، ومن بينها موجة الربيع العربي الأولى، أدرك العديد من راسمي السياسات الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم، المخاطر الكبيرة التي تنجم عن تفاقم التفاوت الاجتماعي، وغياب العدالة الاقتصادية في العالم، وتمكن القلة القليلة من السيطرة على ثروات المجتمعات.
ولتجاوز موجة الانتقادات الواسعة للسياسات الاقتصادية المختلفة التي أدّت إلى نشوء هذه الاختلالات الاجتماعية، أدمج صندوق النقد الدولي – باعتباره اللاعب الأساسي في رسم وتحديد السياسات الاقتصادية –مفاهيم جديدة في وثائقه وتقاريره، حيث أصبحنا نجد مفهوم "النمو الاقتصادي الشمولي- التضميني الذي تنعكس نتائجه على مختلف أفراد المجتمع.
وبالرغم من أن وثائق "الصندوق" تتضمن دعوات لمحاربة التفاوت الاجتماعي وتوليد فرص العمل، وتوسيع المشاركة الاقتصادية وغيرها من الموضوعات المرتبطة بالتنمية المستدامة، إلا أن أي من هذه المفاهيم والدعوات لم تنعكس على تغييرات في السياسات الاقتصادية التي "يفرضها" الصندوق على الدول التي ترتبط معه باتفاقيات برامج إعادة الهيكلة والتكييف و"الإصلاح" المالي، فقد بقيت السياسات المالية والنقدية على ما هي عليه قبل هذه الأزمات. مرةً أخرى؛ المطلوب أن يتم انتهاز هذه الفرصة لإعادة بناء السياسات الاقتصادية، بحيث يعاد النظر في السياسات الضريبية لتصبح أكثر عدلا، تكون تصاعدية على الدخل والثروات، والتخفيف من ضرائب الاستهلاك (المبيعات)، وإعادة النظر بسياسات الحماية الاجتماعية "الاستهدافية"، باتجاه تطوير نظم حماية اجتماعية شمولية، تحول دون وقوع المزيد من الناس في دائرة الفقر، وتأخذ بعين الاعتبار توفير أجور عادلة كافية لحياة كريمة، وتقديم الرعاية الصحية الشاملة وتعليم عام بجودة عالية، والتركيز الحقيقي على تطبيق معايير العمل اللائق.