السيدة فوضى والسيد فراغ

يحار المرء بماذا يسمي هذين الكائنين الوافدين مؤخرا الى ربوع بلادنا العربية (السيدة فوضى، والسيد فراغ)؛ هل يسميهما بزوجين متحابين، أم بتوأمين سياميين؟ فإن لم يكونا كذلك وكانا شيئاً مختلفاً، فأيهما أسبق وجوداً من الآخر؛ وذلك باستعادة قصة البيضة والدجاجة، التي بلبلت عقول متفلسفين صغاراً وأنصاف متعلمين، بلا جدوى ومن دون طائل؟ أم أن هذين المسخين من أرومة واحدة، أو هما فرعان من شجرة الزقوم ذاتها؟اضافة اعلان
فمنذ أن عرفت شعوبنا في مطالع عهد الاستقلال، قوام الدولة المركزية الحديثة، وترسخت سلطاتها الدستورية الثلاث في الوعي العام، ونضجت تعبيراتها السياسية المتساوقة مع ما هو سائد لدى دول العالم المعاصر، لم تشهد هذه المنطقة الممتدة من الماء إلى الماء، ما تشهده اليوم من اضطرابات في حبل الأمن والاستقرار، أنتج كلاً من حالتي: الفوضى والفراغ ذائعتي الصيت السيئ.
ومع أنه يمكن إحالة هاتين الحالتين السقيمتين إلى نظرية المؤامرة الشائعة في ثقافتنا بقوة سحرية طاغية، إلا أن ذلك لا يكفي وحده للتنصل من المسؤولية الذاتية عن خلق الفوضى المتنقلة بين مشارق العالم العربي ومغاربه، وعن استمراء الفراغ الناجم عن استفحال حالة الانقسام الداخلي المؤسس، بدوره، لموجة أشمل من سابقتها، وأعنف في دوافعها العقائدية وتسويغاتها السياسية الملتبسة.
ولا يتوقف الأمر عند حدود هاتين الظاهرتين السياسيتين المتلازمتين تلازم الظل مع الأصل، بل يتعداهما إلى تخليق ظواهر فرعية مشوهة أخرى، أقرب ما تكون جميعها إلى نبت شيطاني، أو قل أشبه بأفراد أسرة من بنات وأبناء يشبّون عن الطوق بسرعة ابن الحكاية الشفوية، ويترعرعون تحت ولاية أبوين يتناسلون بغزارة تناسل الأرانب المدجنة.
فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، زف لنا هذان الزوجان المتعانقان عناق الأحبة، مرة تلو أخرى، إنجابهما لمخلوقات قبيحة، كان البكر منها الاستقواء على الدولة، ومن ثم محاولة تقويض أركانها. يليه، من دون ترتيب من حيث الأهمية، تعزيز الشعور بعدم الأمن، وتحصين الهويات الفرعية، وضرب التنمية، وتعميق التطرف، وانتشار الإرهاب، وفوق ذلك كله تعميم الفشل على كل صعيد، بما فيه فشل المواطن والمجتمع والدولة.
صحيح أن السيدة فوضى والسيد فراغ حاضران على نحو متفاوت الوضوح في العديد من الدول العربية المصابة بأعراض "الربيع العربي"، إلا أنهما حاضران اليوم بكامل عدتهما في كل من ليبيا ولبنان، وذلك على نحو أشد اكتمالاً مما هي عليه الحال في سائر البلدان الشقيقة الأخرى، مثل اليمن والعراق والسودان ومصر، وربما تونس، ودعك من سورية والصومال، فهما مبتدأ هذه الجملة وخبرها الموثّق بالصوت والصورة.
إذ فيما تنطق الحالة الليبية الراهنة بكل عناوين الفوضى العارمة، وبسائر نصوصها المديدة، على نحو ما تقصّه علينا منذ نحو ثلاث سنوات مظاهر غياب الدولة والقانون، واختطاف المؤسسات والرموز، واستشراء حالة الفلتان بكل صوره، فإن الحالة اللبنانية لا تقل تجلياً عن سابقتها، وربما هي الأسبق من غيرها، باستثناء بعض الفوارق الخاصة ببلد التوازنات الطائفية الهشّة، والاغتيالات المسجلة ضد مجهول.
وأحسب أن علّة العلل الكامنة وراء نشوء كل من الفوضى الليبية ضاربة الأطناب، والفراغ اللبناني المتربع في سدة الحكم على رؤوس الأشهاد، تعود أساساً إلى اعتماد مبدأ المغلبة وسياسة القوة القاهرة، أو قل إلى انتشار السلاح؛ تارة باسم الثورة هناك في بلد الدروع العسكرية، وطوراً تحت مسمى المقاومة والتحرير هنا في بلاد الأرز والميليشيات، وذلك قبل أن تتساقط الشعارات في بنغازي وطرابلس ومصراتة، وتنفضح مثيلاتها في القصير ويبرود وغوطة دمشق وغيرها من مطارح "التحرير" الجديدة.
هكذا يتضح لنا، من دون إعمال فكر كثير، أن معامل الارتباط القائم بين السيدة فوضى والسيد فراغ من جهة، وانتشار السلاح بمبررات جلّها زائفة من جهة أخرى، هو المسؤول الأول حصراً عن شيوع كل الظواهر السلبية المتناسلة من رحم هذين الزوجين اللقيطين في العالم العربي، وحدوث كل هذه الاستباحة المذهبية والاختراقات الخارجية، وتسلل هذا الضعف المبدد للمناعة الذاتية، المصابة بعاهة اقتناء السلاح خارج إطار سيادة الدولة المركزية.