الشاعر والإمبراطور.. لقاء استثنائي بين غوته ونابليون غيّر حياتهما

vc861mhc
vc861mhc
عمان - الغد - "آه، م. فون غوته الشاعر الألماني العظيم، مؤلف آلام فرتر"، هكذا هتف الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عندما قيل له إن غوته ينتظر خارج الباب أثناء فطور الإمبراطور في أحد الصباحات في فايمار الألمانية التي احتلها الفرنسيون بقيادته. وبحسب (الجزيرة نت)، مثلما التقى ابن خلدون بتيمور لنك الذي احتل بلاده، جاء لقاء الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته مع نابليون بونابرت، الذي أراد أن يتقرب من النخبة الثقافية الألمانية ويعزز سمعته بوصفه صديقا للفنون والأدب، وبدا كذلك أن المثقف الألماني حاز إعجاب القائد الفرنسي بينما تحدث غوته عن محتل بلاده كـ"إنسان" وأبدى لاحقا تعاطفه معه. وكتب هذا اللقاء بين نابليون وغوته -الذي كان يكبره بعشرين عامًا ووصلت شهرته الآفاق بالفعل عندما وصل نابليون إلى السلطة في فرنسا- فصلاً مهما في العلاقة بين المثقف والدولة خاصة السلطة الأجنبية الغازية، وشهد نقاشا أدبيا تطرق لرواية "آلام فرتر" التي أبدى نابليون إعجابه بها، واشتمل على مفارقات عديدة كشفت الكثير عن الحياة الأدبية والسياسية في أوروبا القرن التاسع عشر. طلب نابليون لقاء الشاعر الألماني، وعندما وصل أخبر مساعده "دعه يدخل على الفور"، وبعد لحظة كان نابليون لا يزال جالسا على الطاولة، وتحولت عيون الجميع نحو الباب، حيث ظهر رجل نبيل، طويل القامة وقوي البدن ويكاد يشبه البلوط الألماني! استمر نابليون في تناول الطعام أثناء دخول غوته ومع إيماءة بيده مشيرا لغوته بالاقتراب، وحين امتثل الشاعر الألماني ووقف أمام الطاولة مقابل الإمبراطور، نظر الأخير للأعلى ثم لمرافقه وأشار إلى غوته قائلا " آه هذا رجل!" فابتسم غوته ابتسامة خفيفة وانحنى في صمت. "كم عمرك يا م. فون غوته؟" سأل نابليون. "سيدي، أنا في سنتي الستين". "في عامك الستين، ومع ذلك، لديك مظهر شاب! آه، من الواضح أن التواصل الدائم مع الموسيقى قد أعطاك شبابا إضافيا". وتدخل القائد العسكري الفرنسي دارو الذي كان حاضرا للقاء قائلا "سيدي، هذا حقيقي" فأشعار غوته تنبض بالشباب والجمال والنعمة، وألمانيا تصفه عن حق بأكبر شعرائها. "أعتقد أنك قد كتبت أيضا المآسي؟"، سأل نابليون مقاطعا. أجاب غوته مبتسما "سيدي، لقد بذلت بعض المحاولات.. لكن تصفيق أبناء بلدي لا يمكن أن يعمي عن القيمة الحقيقية المتواضعة لأعمالي الدرامية، وأعتقد أنه من الصعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، أن يكتب شاعر ألماني مآسي حقيقية تلبي متطلبات الفن الحقيقية التي يعد مكانها على المسرح، ويجب أن أعترف أن أعمالي المأساوية لا توافق متطلبات فن التراجيديا". وأكمل نابليون "دعنا نتحدث عن (آلام فرتر). لقد قرأتها مرات عدة، وقد منحتني دائمًا أعلى مستويات المتعة، ورافقتني الرواية إلى مصر وأثناء حملاتي في إيطاليا، ولهذا يجب أن أعود بفضل الشاعر الذي أتاح لي ساعات ممتعة". قال غوته وهو ينحني قليلا "سيدي صاحب الجلالة إنك تجاملني بما فيه الكافية". لكن نابليون أضاف "فرتر هو في الواقع عمل مليء بالأفكار الجليلة.. إنه يحتوي على آراء نبيلة للحياة، ويصور التعب والاشمئزاز الذي يجب أن تشعر به جميع الشخصيات الرقيقة الصافية الذهن عند إجبارها على ترك مجالها والتواصل مع العالم، لقد وصفت معاناة بطلك ببلاغة لا تقاوم، وربما لم يقم شاعر بعمل تحليل فني للحب أفضل مما فعلت". وأضاف نابليون مستدركا "لكن دعني أخبرك أنك لم تكن متسقًا تماما في العمل، بل تجعل بطلك يموت ليس فقط بسبب الحب، ولكن أيضا بسبب الطموح الجريح، وذكرت صراحة أن الظلم الذي لقيه البطل على أيدي رؤسائه من المسؤولين كان جرحًا ينزف بشكل مستمر، وقد عانى منه حتى في وجود السيدة التي كان يحبها بحماس شديد، وهذا ليس طبيعيًا تماما ويضعف فهم التأثير الذي يمارسه الحب على فرتر في ذهن القارئ. لماذا فعلت ذلك؟". بدا غوته مندهشا من هذا اللوم غير المتوقع، فقال بعد توقف قصير "يا صاحب الجلالة لقد وجدت خطأً في شيء لم يوبخني أحد عليه حتى الآن، وأعترف بأن انتقادك قد صدمني، لكن هذا عادل وأنا أستحقه، وقد يُعذر الشاعر في استخدامه حيلة أدبية لا يمكن اكتشافها بسهولة من أجل إحداث تأثير معين يعتقد أنه غير قادر على تحقيقه بطريقة بسيطة وطبيعية أو غير متكلفة". أومأ نابليون بامتنان. وقال "آلام فرتر هي دراما القلب، وليس هناك ما يمكن مقارنتها بها". "وبعد قراءتها، أنا مقتنع بأن مهنتك هي أن تكتب الرسائل بهذا الأسلوب لأن تأملاتك المأساوية هي الرفيق المفضل لأعظم شاعر، ولقد كانت المأساة في جميع الأوقات مدرسة رجال عظماء. ومن واجب الملوك تشجيعها ورعايتها ومكافآتها، ولكي نقدر ذلك بشكل صحيح، لا نحتاج لأن نكون شعراء لأنفسنا، بل نحتاج فقط إلى معرفة الطبيعة البشرية والحياة والعقل. والمأساة تطلق عنان القلب وترقي الروح وتستطيع -أو بالأحرى يجب- أن تخلق الأبطال". وأضاف نابليون "أنا مقتنع بأن فرنسا مدينة لأعمال بيير كورني (شاعر مسرحي فرنسي عرف بمسرحياته الهزلية المأساوية) لصناعة الكثير من رجالاتها العظماء وإذا كان حياً كنت لأجعله أميرا". فرد غوته "جلالتك -بكلماتك- قد زيّنت ذكراه بتاج أمير"، وأضاف "من المؤكد أن بيير كورني كان يستحق ذلك، لأنه كان شاعرا بالمعنى النبيل، ومشدوها بأفكار ومبادئ الحضارة الحديثة. إنه لا يجعل أبطاله يموتون نتيجة لمصير مرسوم، لكنهم دائمًا ما يحملون بذور الخراب أو الموت لأنفسهم، إنه الموت الطبيعي والعقلاني، وليس وفاة مصطنعة". "دعنا لا نتكلم أكثر عن القدماء والقدرية (الجبرية)"، صرخ نابليون. "إنهم ينتمون إلى عصر أكثر قتامة. التفوق السياسي هو قدرتنا الحديثة، ومآسينا يجب أن تكون مدرسة للسياسيين ورجال الدولة. هذه هي أعلى قمة يستطيع الشعراء الوصول إليها". واقترح نابليون في اللقاء على غوته أن يكتب عن موت قيصر، قائلا "يبدو لي أنه بإمكانك أن تقدم نظرة أفضل من تلك التي قدمها فولتير، وقد تصبح تلك أنبل مهمة في حياتك، ويجب أن تثبت للعالم مدى السعادة والازدهار الذي حققه قيصر لو كان الوقت أمهله المزيد لتنفيذ خططه الشاملة، ما رأيك في ذلك غوته؟". قال غوته بابتسامة مهذبة "صاحب الجلالة، أفضل أن أكتب حياة القيصر ومهنته، وفي سبيل القيام بذلك، لا ينبغي أن أكون واقعا في تأثير لنموذج..". وقابلت عيناه عيني الإمبراطور، وكانا يفهمان بعضهما بعضا جيدًا، فابتسم كل منهما. "يجب أن تذهب إلى باريس"، صرخ نابليون. "أنا أصر على قيامك بذلك. هناك سوف تجد قصصا وفيرة لتكتب عملك المأساوي". فعقب غوته قائلا "إن جلالتك توفر لشعراء العصر الحاضر، أينما كانوا، مادة وفيرة"، وأجاب نابليون "يجب أن تذهب إلى باريس" مكررا الطلب، وأضاف "سنلتقي مرة أخرى". فهم غوته التلميح وتراجع عن الطاولة. وحينها وجه نابليون سؤالا إلى المارشال سولت الذي دخل في هذه اللحظة، فانسحب الشاعر دون وداع كبير وتبعته عيون الإمبراطور والتفت إلى جليسه مكررا تعجبه "هذا رجل!". استطاع نابليون أن يكون أول إمبراطور لفرنسا بعد الثورة التي أطاحت بالملكية العام 1789 يوحّد أرجاء واسعة من أوروبا بالقوة، وبعد انتصار فرنسا على النمسا وحلفائها استُقبل نابليون في باريس استقبال الأبطال، مما أجج طموحاته السياسية في الحكم. وفي شهر مايو/أيار 1804، أُعلنت فرنسا إمبراطورية، وكانت تشمل فرنسا وإيطاليا وأجزاء من بلجيكا وألمانيا والنمسا وصولا إلى روسيا. وأصبح نابليون إمبراطورا يحكم أجزاء واسعة من أوروبا، وهو في أواسط العقد الرابع من عمره، ورغم ذلك كان طموحه التوسعي بلا حدود، فواصل حملاته العسكرية وشنَّ حربه الثالثة ضد الحلفاء (النمسا وبلجيكا وهولندا وروسيا وبريطانيا)، وفي شتاء العام 1805 انتصر في معركة أوسترليتز، وأخضع الحلفاء، وفرض الحماية على إسبانيا وجعلها تحت إمرة شقيقه، قبل أن يبدأ تراجعه الذي انتهى بالعزل والنفي. وخلال حملة نابليون العام 1808 في ألمانيا، زار مؤلفه المفضل غوته في فايمار ومرة أخرى في إرفورت، وكتب المؤرخ البريطاني أندرو روبرتس عن لقاء نابليون وغوته مظهرا قدرة الإمبراطور الفرنسي على إجراء محادثة أدبية.اضافة اعلان