الشرط الوحيد للمصالحة الفلسطينية

علاء الدين أبو زينة عبارة «المصالحة الفلسطينية» سمجة بما يكفي، ناهيك عن تكرارها الممل، بلا نتيجة، طوال 15 عاما. في الأساس، من العار أن يوجد «صراع» متطرف يستعصي حله بين الفلسطينيين، والذي يبدو وجوديا أكثر من الصراع مع العدو المشترك. بل إن هذا الصراع يتضمن ميل أحد الأطراف إلى التماهي المكشوف مع فكر العدو وخططه في تناقض مع فكرة فلسطين. ولم تكن الفصائل الفلسطينية في عوز، تاريخيا، إلى ابتداع «تعددية» غير لازمة أبداً في السياق الفلسطيني. ثمة فصائل يمينية متنافسة؛ دينية متنافسة؛ ويسارية متنافسة. وسوف ينشق فصيل ليفرخ فصيلا ثالثا. وما هي «تعددية» لتنويع أساليب النضال في إطار تكاملي، وإنما تمزيق صرف للتكوين الفلسطيني. ومبررها الوحيد هو أن الفصيل الواحد لا يتحمل أكثر من زعيم واحد وحاشيته، فيؤسس المعتقدون بأنهم أصحاب الحقيقة تنظيماً ليتزعموه ليحرروا فلسطين. ومن المؤسف أن تكون القيادة، في ما يُفترض أنها حركة ثورية تحررية، منصب امتياز، تصاحبه الهيبة المختلقة والفخامة والسيادة على الفراغ، في حين ينبغي أن تكون قيادة التحرر جحيما من الضغط والخطر والمواجهة المستمرة مع الموت. لكن القسمة التي عطلت حيوية الجسم الفلسطيني في العقود الأخيرة حقيقية، يحددها سؤالان جذريان حقا: ما هي فلسطين؟ وما السبيل إلى تحرير فلسطين؟ وغني عن البيان أن هذه القسمة لا تعكس قسمة مماثلة بين أبناء الشعب الفلسطيني، في علامة على انفصال «القيادات» المطلق عن الشعب الذي تدعي تمثيله. غالباً، سوف يتفق الفلسطيني في رام الله، أو عكا، أو غزة أو ألاسكا، على ما هي فلسطين: كل مكان سكنه وامتلكه فلسطيني، تاريخياً، وانتزع منه بالقوة. وربما يختلفون فقط في الإجابة عن أسئلة فنية، مثل: هل يمكن تحرير فلسطين كلها الآن أو غدا؟ والإجابة ظرفية. لكن هناك الذين يعرفون فلسطين، رسمياً ودعائياً وقانونياً، بأنها الضفة الغربية وغزة (ناقصة المستوطنات القابلة للمبادلة بأراض من البلد الآخر، الذي ليس فلسطين الآن). وطريق هؤلاء إلى تحرير «فلسطين» الصغيرة هذه، هو إسبال اليدين، والبكاء والرجاء، وإيمان بلا أساس بضمير العالم وعطف أميركا. وحتى النضال الشعبي؛ إزعاج العدو بالاحتجاجات والاشتباكات الصغيرة، ممنوع. وأعمال المقاومة الصغيرة كنوع من الدفاع اليائس عن النفس، ممنوعة وتعطل النضال، ويستحق أصحابها الاعتقال وتسليمهم للعدو. وهناك الرؤية المتماهية مع حقيقة قضية فلسطين وعدالتها، التي تُعرف فلسطين بما هي. والطريق إلى تحرير فلسطين هو المقاومة، بكل أشكالها. والهدف النهائي الذي لا بديل عنه، هو هزيمة الاستعمار واستعادة كل فلسطيني ما سُلب منه، مثلما يفعل كل بلد مُستعمر. فكيف تمكن «المصالحة» والتوفيق بين اتجاهين متعارضين هكذا؟ يتحدث المنظر الثوري المناهض للاستعمار، فرانز فانون، عن كيفية استيعاب المضطهدين لعنف المستعمِرين وإسقاطه على أنفسهم. ويكتب: «حيث يتعلق الأمر بالأفراد، ثمة نفي إيجابي واضح للفطرة السليمة. بينما يحق للمستوطن أو الشرطي أن يضرب المواطن الأصلي طوال اليوم، وأن يهينه ويجعله يزحف أمامه، سوف ترى المواطن الأصلي يستل سكينه عند أدنى نظرة مستفزة أو عدوانية من مواطنه الأصلي الآخر، لأن الملاذ الأخير للمواطن الأصلي يصبح الدفاع عن شخصيته في مواجهة أخيه». هذا الخروج عن الفطرة السليمة هو بالضبط حال الفلسطينيين الآن، والسبب هو أن الفلسطينيين ليسوا مشتبكين مع العدو، على أساس تعمد البعض الخلط بين أعمال المقاومة و»العنف» بالمعنى السلبي، في حين أنهم يمارسون العنف فيما بينهم. وحسب الأستاذة في جامعة بير زيت، أميرة سلمي، في مقال لها في مجلة «الآداب» اللبنانية: «في الكتابات المناهضة للاستعمار، تبقى المواجهةُ العنيفةُ مع المستعمِر شرطًا رئيسًا لتحرير المستعمَر من حالته. ليس النضالُ هنا محدَّدًا ضدّ كيان خارجيّ، بقدر ما هو ضد حالة الخضوع والعجز التي يفرضها الاستعمارُ على المستعمَر؛ وهي حالةٌ لا يمكن الخروجُ منها إلّا بقضاء المستعمَر على ذاته المستعمَرة. وهذه العملية عنيفة بالضرورة». إذا كان التاريخ دليلاً مرشداً، فإن الشرط الوحيد لـ»المصالحة» الفلسطينية هو التصالح مع فكرة الفلسطينية نفسها، وتحرير الذات الممتهنة المشتبكة بطريقة لا إنسانية مع نفسها بالاشتباك حيث يجب، مع العدو. وحسب فانون: «بينما يتم تقطيعك أنت ومواطنيك مثل الكلاب، لا حل آخر سوى استخدام كل الوسائل المتاحة لاستعادة وزنك كإنسان».

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

اضافة اعلان