الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و"كورونا": التحضير بعيد المدى

Untitled-1
Untitled-1

روبرت بيشل الابن؛ طارق يوسف* - (مركز بروكينغز) 14/12/2020

حتى قبل أن يضرب فيروس كورونا المستجد وانهيار أسعار النفط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الوقت نفسه، كانت دول هذه المنطقة تواجه مجموعة من التحديات المعقدة التي تتراوح من الصراعات في ليبيا وسورية واليمن، والتدهور البيئي وتغير المناخ، إلى الزيادات الديموغرافية الكبيرة التي تضع ضغطاً كبيراً على الحكومات التي تكافح لتأمين الوظائف والخدمات الملائمة لشعوب شابة متزايدة الأعداد.
لحسن الحظ، من خلال مزيج من الحظ والمهارة، مرت الجائحة في البداية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرور الكرام؛ فقد جاء رد فعل أكثرية الدول في تلك المنطقة سريعاً بمزيج من الإجراءات، مثل إغلاق الحدود والإغلاق الاقتصادي والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي. وأُضيفَت إلى هذه الإجراءات جهودٌ لزيادة عدد الفحوصات وتحسين قدرة الوصول إلى المعدات الطبية، على غرار الأقنعة وأجهزة التنفس ومعدات الوقاية الشخصية. وسعت إجراءات أخرى إلى التخفيف من العبء الاقتصادي الذي خلفته الجائحة وإلى الاعتناء بالفئات الهشة في المجتمع، على الرغم من أن خطوات كهذه غالباً ما واجهت قيوداً مالية كبيرة، وكان مستوى شموليتها أدنى من الإجراءات الشبيهة التي اعتمدتها دول منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. وفي بعض النواحي، تناسبت المراحل الأولى من الجائحة مع الميزة المقارنة في هذه المنطقة، أي أن تطبيق إجراءات الاحتواء الأولى وقع بالإجمال على عاتق الجيش والشرطة، وهما اللذان لطالما كانا من المؤسسات الأقوى والأفضل تجهيزاً في المنطقة. فكانت إجراءات الإغلاق هذه، مع بعض الاستثناءات البارزة، قادرة عموماً على كبح تفشي الفيروس والمحافظة على أعداد المصابين والوفيات منخفضة.
وبحلول أوائل تموز (يوليو)، كانت معدلات الإصابات والوفيات لكل مليون شخص من السكان أدنى بكثير من معدلات المناطق المتأثرة بشدة في أوروبا وجنوب آسيا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية. ففي وقت شارفت فيه المملكة المتحدة وإيطالياً على بلوغ معدل 600 حالة وفاة لكل مليون شخص من السكان وبلغ المعدل في الولايات المتحدة 386 شخصاً، كان معدل الوفيات جراء فيروس كورونا المستجد في المملكة العربية السعودية 47 حالة لكل مليون؛ والإمارات العربية المتحدة 32 حالة، فيما بلغ المعدل في المغرب أعلى من 6 حالات بقليل فحسب. وعلى نحو لافت أكثر، بلغ المعدل في تونس 4.2 حالة وفاة في المليون، فيما احتل الأردن المرتبة الأولى مع 0.9 حالة، وقارعت هذه الأرقام آنذاك أفضل الدول في العالم، على غرار أستراليا (4.1)؛ ونيوزيلاندا (6.4) وكوريا الجنوبية (5.5).
ولكن للأسف، لم يدم هذا الوضع طويلاً. فقد واجهت دول مثل الأردن وتونس ضغطاً لفتح القطاعات الاقتصادية، وقامت بإلغاء الكثير من الإجراءات الوقائية في أيار (مايو) وحزيران (يونيو). وفي وقت لاحق، فتحت حدودها أمام السياحة. وبعد فترة تأخر في الصيف، أخذت أعداد الإصابات بفيروس كورونا المستجد ترتفع بسرعة في أيلول (سبتمبر). وطبقت دول أخرى، مثل المغرب، إجراءات التباعد الاجتماعي بشكل متفاوت، وشهدت بدورها ارتفاعاً سريعاً في عدد الإصابات. ولطالما كان من الواضح أنه في حال خرج الفيروس من حالة الاحتواء وانتشر من دون سيطرة في المنطقة من خلال المناطق الفقيرة المكتظة أو المناطق الداخلية الريفية التي لا تنال ما يكفي من الخدمات، أو مخيمات اللاجئين أو الدول التي تعاني من اضطرابات سياسية وصراعات، فإن العواقب ستكون وخيمة.
ومع استمرار الجائحة، بدأت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشهد الآن أنماطاً من معدلات الوفاة والمرض تتشابه أكثر مع المعدلات التي تشهدها المناطق الأخرى. وحتى بداية كانون الأول (ديسمبر)، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل ما تزال دون المعدلات المسجلة عالمياً للوفيات لكل مليون من السكان، لكنها كانت تقلص الفارق باطراد. وتغير ترتيب الدول في داخل المنطقة أيضاً، فأصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة الآن الدولة الأفضل أداء، مع معدل وفيات في المليون يبلغ 58.2، تليها قطر مع 82.6. أما المملكة العربية السعودية فبلغ المعدل فيها 169.7، والأردن 274.6 وتونس 275.8.
كما تواجه الدول التي تشهد صراعات داخلية أو تخرج حديثاً من صراعٍ الخطرَ الأكبر بشكل خاص. فبعد أن تفادت ليبيا أسوأ ما في الجائحة، شهدت ارتفاعاً سريعاً في الإصابات في تموز (يوليو) وآب (أغسطس)، ما أدى إلى ظهور مخاوف من أن فيروس كورونا المستجد ستكون له تداعياتٌ مدمرة على بيئة الحكومة الفوضوية في البلاد، وعلى البنية التحتية المهترئة لنظام الرعاية الصحية فيها. ويبدو أن دولاً مثل سورية تعاني بشدة، لكنها تتكتم على المعلومات عن حدة الجائحة. واستنتج تحليل وبائي أُجريَ مؤخراً عن دمشق أن الإحصاءات الرسمية لا تُبلغ عن أكثر من 1.25 في المائة من أعداد الوفيات الفعلية. وطالما ظلت المنطقة تضم بؤراً كهذه، سيكون من الصعب احتواء تفشي الفيروس في دولها.
مع هذا الوضع المحبِط، تبرز بعض الأسباب المتواضعة للشعور بالأمل. فقد انخفضت معدلات الوفيات في صفوف أولئك الذين أصيبوا بالمرض في أرجاء المنطقة (باستثناء مصر التي تبقى فيها المعدلات مرتفعة بشكل مخيب للآمال). وهذا جزء من اتجاه عالمي قد يعكس التحسن في كيفية معالجة المرض. وتمكنت بعض الدول، مثل قطر، من رفع أعداد الفحوصات إلى مستويات لافتة، ما يؤكد أن مقاربة أكثر استهدافاً تتمحور حول إجراء الفحوصات المكثف وتتبع المخالطين والتدخلات المركزة في بؤر التفشي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أمرٌ ممكن، في بعض الدول على الأقل. ويمكن أن تؤمن الجائحة الزخم لبعض المبادرات الإقليمية المهمة، مثل إنشاء مركزٍ للسيطرة على الأمراض لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويمكن أن يساعد مركز كهذا على دعم عملية نشر لقاحات فيروس كورونا المستجد في أرجاء المنطقة، فضلاً عن الحد من مخاطر الأمراض المزمنة والمعدية في المستقبل.
بينما يُعد تطوير لقاح -أو لقاحات- لمكافحة تفشي فيروس كورونا المستجد موضع ترحيب بالتأكيد، فإن من غير المرجح أن يؤمن اللقاح إغاثة فورية. وقد وقع عدد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اتفاقية التزام مع مبادرة "كوفاكس" التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية؛ وهي مبادرة عالمية للعمل مع الشركات المصنعة للقاحات لمنح الدول فرصة وصول عادلة للقاحات الآمنة والفعالة. ولكن فعالية اتفاقية "كوفاكس" لم تظهر بعد، لأن الكثير من الدول الموقعة (مثل بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي)، وغير الموقعة (مثل الولايات المتحدة) تستمر في السعي إلى إبرام اتفاقيات ثنائية الأطراف خاصة بها مع الشركات المصنعة، وسوف تستأثر هذه الاتفاقات بحصة كبيرة من الإنتاج الأولي للقاح. وعدا الحصول على فرصة للوصول إلى اللقاحات، سيشكل نشرُها تحدياً في الكثير من مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما فيها الدول الغارقة في الصراعات أو المناطق الريفية التي تفتقر إلى منشآت تخزين مبرَد ملائمة.
وتبرز إشارات إلى أن الجائحة يمكن أن تحث حكومات المنطقة على إجراء إصلاحات مهمة في الحوكمة والإدارة العامة. فقد أسست كل الدول تقريباً لجانَ تنسيق مركزية للتعامل مع الفيروس، وقد أدت هذه اللجان دوراً مهماً في تحسين نوعية ملاءمة السياسات والتكامل التشغيلي في منطقة اشتهرت بوزارات منعزلة وتنسيق ضعيف بين الحكومات. وسوف يمنح ذلك المزيد من الزخم للانتقال إلى الحوكمة الإلكترونية وحكومة الأجهزة المتحركة، وهي من المجالات القليلة التي تحقق فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أداء جيداً في مؤشرات الحوكمة العالمية. وستؤمن الاختلالات المالية المزيد من الحوافز للحد من التكاليف وتحسين فعالية العمليات الحكومية. ويمكن أن تقدم الحاجة إلى دعم الأفراد الضعفاء بين السكان المزيد من الأسباب من أجل إعادة صياغة العقد الاجتماعي السائد في دول مجلس التعاون الخليجي، فيتم الابتعاد عن الضمانات التي تقدمها وظائف القطاع العام بحكم الواقع والانتقال إلى دخل أساسي أدنى.
ولكن للمنطقة ككل، سيكون الألم الذي سببته الجائحة فورياً وملموساً وستتأخر أي مكاسب نهائية محتملة وتتعرض لخطر التشتت. وستكون تداعيات الفيروس على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الأرجح مباشرة لأعوام عدة ولفترة أطول بشكل غير مباشر. وربما يمكن الحد من آثاره ولكن لا يمكن تفاديها. بيد أنه من خلال العثور على مزيج مناسب من الحكمة والسياسات والإصلاحات المؤسساتية، يمكن لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تصبح قادرةً بشكل أفضل على تفادي كوارث كهذه في المستقبل، ومجهزة بشكل أفضل بمؤسسات أكثر مرونة واستجابة تساعدها على مواجهة تحديات صعبة أخرى قد تواجه التنمية في المستقبل.

اضافة اعلان

*روبرت بيشل الابن: زميل غير مقيم في مركز بروكينغز- الدوحة.
*طارق يوسف: مدير مركز بروكينغز- الدوحة. وهو زميل رفيع في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية.