الشعبوية في مقابل الإعلام

كريس باتِن*

لندن - أنا شخص كبير في السن بما يكفي لكي أتذكر أن أفضل شيء كانت تتميز به الشعبوية، هو أنها لم تكن تحظى بأي شعبية. لم تصل القومية، بأي شكل من الأشكال، إلى حد فوز الحمائيين الاقتصاديين في الانتخابات. وحتى أولئك الناخبون الذين أحسوا بالقلق من الهجرة، كانت اختياراتهم مبنية على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، والتي كانت تنقلها وسائل الإعلام بدقة نسبية.اضافة اعلان
اليوم، مع ذلك، يبدو أننا نتجه نحو نوع مختلف من السياسة. والعل الأمثلة الأكثر ذكراً هي تصويت المملكة المتحدة في العام الماضي لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. كما تقدم كل من بولندا والمجر أمثلة مثيرة للقلق عن السياسيين ذوي الخطاب القومي والشعبي لتعزيز الأهداف التي تفوح بالاستبداد الناشئ.
بطبيعة الحال، هناك فرق بين استخدام النزعة القومية الفظة في الأنظمة الاستبدادية الفعلية وبين استخدامها في الديمقراطيات. ويستخدم الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين القومية لتعزيز دعمهما، تماماً مثل ما قد يفعل الساسة الغربيون، لكنهم يفتقرون إلى القيود الديمقراطية ويمكنهم فعل أي شيء إلا احترام سيادة القانون.
يقوم الرئيس الصيني شي باعتقال منتقديه. أما بوتين فكثيراً ما يقتل معارضيه. ومع ذلك، إذا كنتَ تثق بترامب، فليس للأجهزة الأمنية الروسية علاقة بذلك. وحتى لو فعلَت، كما أشار ترامب في مقابلة أجريت معه مؤخراً، فإنه لا يوجد دليل لإدانتها. وقال ترامب إن "هناك الكثير من القتلة". "هل تعتقد أن (الولايات المتحدة) بريئة بالفعل؟"
سواء كانت الولايات المتحدة "بريئة" أم لا، فإنه ليس هناك من ينكر أن الرئيس الأميركي، على عكس نظيريه الروسي أو الصيني، يجب أن يعمل ضمن مجموعة من الترتيبات الدستورية ونظام قيم معينة. ولا يمكنه التغاضي عنها، أو تنظيم قتل المعارضين والمنتقدين. وقد يحتقر الرفيق ترامب هذا النظام، لكنه لا يستطيع التخلص منه.
لا يعني هذا بطبيعة الحال أن ترامب لن يحاول. فعندما أتيحت له الفرصة، طرد ترامب أولئك الذين يختلفون معه. ومن ناحية أخرى، يحاول الرئيس تشويه أو إضعاف المعارضين من خلال الهجمات القاسية. وعلى سبيل المثال، أطلق وابلاً من الانتقادات ضد القضاة والمحاكم الذين حكموا ضد الأمر التنفيذي الذي يُحظر دخول أي شخص من سبعة بلدان مسلمة  إلى الولايات المتحدة.
كما شن ترامب حرباً ضد وسائل الإعلام، التي وصفها كبير الاستراتيجيين لديه، ستيف بانون "بحزب المعارضة". ويصف ترامب أي تقارير منددة أو منتقدة لإدارته أو سياساته -حتى نشرها النتائج السلبية لاستطلاعات الرأي- بأنها "أخبار وهمية". ويصف الصحفيين بأنهم "أدنى شكل من أشكال الحياة". وقد ارتدى المشجعون في مسيرات ترامب قمصاناً كتبت عليها عبارة "حبل. شجرة. صحفي".
هذا النهج ليس فريداً من نوعه ومقتصراً على ترامب. فقد قوضت الحكومتان البولندية والمجرية حرية الصحافة، من خلال تقييد وصول الصحافة والإعلام إلى المسؤولين. وفي الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية، يُنظر إلى وسائل الإعلام دائماً على أنها تهديد، إذا لم تكن هدفاً للقمع.
لكن وسائل الإعلام الأميركية لم تخضع لأوامر ترامب. وفي واقع الأمر، أصبحت العديد من المنشورات - باستثناء الأبواق الرسمية، مثل فوكس نيوز لروبرت مردوخ- عبارة عن حراس للمؤسسات والقيم التي تقوم عليها الحرية. وهي متمسكة بالاعتقاد بأنه في قلب ديمقراطية صحية ونشطة يجب أن يكون هناك حوار مدني  يحترم المعرفة، والحقيقة، والخلاف، والفوارق البسيطة.
هذا لا يعني أن الصحفيين يجب أن يبرروا وصف بانون لهم بالأحزاب المعارضة. بل ينبغي أن يستمروا في القيام بعملهم، ورفض "الحقائق البديلة" والبحث عن الحقيقة. وكما وجد الكاتب الإيطالي بريمو ليفي أن معرفته العلمية وخبرته ساعدته على التأقلم مع الحياة في ظل موسوليني وأوشفيتز، يجب على الصحفيين مواجهة الساسة المخادعين اليوم من خلال التزامهم  بعملهم أكثر من أي وقت مضى.
وفي هذا الصدد، لدى الصحفيين البريطانيين الكثير لتعلمه من نظرائهم في الولايات المتحدة. فمنذ انتخابات بريكست، لم تبدل الصحف البريطانية أي جهود لمحاولة إنقاذ ديمقراطيتنا من اجتياح مشاعر الأغلبية. على العكس من ذلك، فإن معظم الصحف المطبوعة لدينا وحتى واحدة من أكثر الصحف التقليدية لدينا - التي كانت تعتبر نفسها صحيفة السجل - عززت التحيزات الشعبية، تماما كما فعلت فوكس نيوز في الولايات المتحدة.
هذه المجموعة، التي تضم عددا من الصحف، وإن كانت في تراجع مستمر، لا تزال تتجاوز أربعة ملايين. وبنظرها، تُعَرف "إرادة الشعب" بأنها إرادة أغلبية ضئيلة من الناخبين الذين يؤيدون ترك الاتحاد الأوروبي. نسوا ما يعنونه بذلك التصويت. ونسوا 48٪ الذين صوتوا للبقاء. ويوبخون أي شخص يثير تساؤلات حول كيفية تنفيذ هذه العملية التدميرية.
بينما تتحدث وسائل الإعلام الشعبوي  في بريطانيا حول استعادة السيادة البرلمانية في بريطانيا (على الرغم من أنها لم تفقدها أبداً)، فإنها تدين أي عضو من أعضاء البرلمان يشكك في الطريق الذي تم من خلاله تأسيس البلاد لحد الآن. حتى أنهم هاجموا سيادة القانون، الذي يتيح لهم الحريات ذاتها التي كانوا غالبا ما يسيئون إليها. وعندما أصرت واحدة من أعلى المحاكم البريطانية على أن الحكومة ينبغي أن تتابع "البريكست" بطريقة مشروعة، تم اتهام القضاة بأنهم "أعداء الشعب". وأطلق ترامب نفسه مؤخراً تغريدة بنفس التعليق حول وسائل الإعلام الأميركية.
ينبغي أن تعتبر وسائل الإعلام  ذلك وسام شرف -عربون عملهم الدؤوب لحماية المجتمع المدني من أسوأ التجاوزات الشعبوية. وعلى النقيض من ذلك، في بريطانيا، حيث تتحدى وكالات الأنباء المهمة القيم ذاتها التي عززت لفترة طويلة صحة وحيوية ديمقراطيتنا، يقف شيء قليل بيننا وبين مستقبل أكثر شراسة وأقل ازدهاراً.

*آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ، ومفوض الاتحاد الأوروبي السابق للشؤون الخارجية. وهو مستشار لجامعة أوكسفورد.
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".