الشعب يريد..

عندما انطلق الربيع العربي في بلادنا قبل أعوام  توجه الشباب والرجال والنساء إلى الشوارع والساحات وعلت هتافاتهم ودوّت أصوات الجماهير العربية المنادية تارة بـ "إصلاح النظام"  وأخرى " بـ "إسقاط النظام" دون إدراك لعواقب المطالبات أو معرفة بمتطلبات الإصلاح أو استعداد لبناء النظم البديلة. وخلال خمسة أعوام أسقطت الجماهير العربية النظم الحاكمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وحاولت وما تزال في سورية. بعض النظم الأخرى حاولت الاستجابة لنداءات الجماهير فأجرت إصلاحات تفاوتت في عمقها وملاءمتها وجديتها.اضافة اعلان
في البلاد العربية، وبالرغم من كل الضجيج الذي أشغل الفضاءات إلا أن الشعوب العربية التي كانت حاضرة في الشوارع والساحات والميادين ظلت غائبة أو مغيبة عن صناعة مستقبلها والإمساك بزمام التغيير الذي تولته قوى وجماعات حرصت على توجيه الأحداث والتحولات في المسارات التي لا تؤثر على مصالحها.
في غياب الرؤية للمستقبل والإرادة الشعبية الواعية فشلت الشعوب العربية التي أسقطت نظمها في إيجاد أنظمة ديمقراطية بديلة، فكانت النتيجة أن عادت إلى انظمة لا تختلف كثيرا عن تلك التي ثارت لاقتلاعها أو بقيت تصارع في محاولة للعودة لشيء من الاستقرار الذي كان سائدا قبل الثورات.
اليوم يراقب العرب ما يجري في تركيا بدهشة وحرقة وأمل..ففي الوقت الذي يتمنون فيه لتركيا الخير والأمان تتأسى الشعوب العربية على واقعها وتغبط الأتراك على الديمقراطية المنتجة التي بدت خلال الأحداث حصنا امينا لجأت له الحكومة وكانت السند والمبرر الذي اعتمده رؤساء وزعماء العالم الذين دانوا الانقلاب وأيدوا الحكومة التركية.
مهما  تكون مواقفنا واتجاهاتنا من تركيا ومهما اختلفنا أو اتفقنا مع  سياساتها وأدوارها على المسرح الدولي والإقليمي فإن ما حدث في تركيا خلال اليومين الماضيين لم يكن متوقعا أو واردا في حسابات أكثر المراقبين تشاؤما. ما حدث  كان صادما ومستغربا لأن تركيا كانت في أوج عنفوانها وازدهارها وفعاليتها على المسرحين الدولي والإقليمي؛ فبالرغم من الأحداث الإرهابية  والتوتر النسبي في علاقاتها مع روسيا واعتراض البعض على سياستها الخارجية إلا أن الحزب الحاكم يتمتع بأغلبية مريحة ويدير برنامجا اقتصاديا اجتماعيا تنمويا استطاع النهوض بتركيا خلال  سنوات إدارته للحكومة بشكل يبعث على الإعجاب.
الانقلاب العسكري في تركيا كان مفاجئا للأتراك والعالم؛ فبالرغم من التوتر الدائم في العلاقة بين العدالة والتنمية وزعيمها أردوغان من ناحية والمؤسسة العسكرية التركية من ناحية أخرى، ومع الأخذ بعين الاعتبار للدور الذي يقوم به العسكر كقوة ضامنة لعلمانية الدولة والنظام إلا أن التفكير بانقلاب عسكري على هذه الشاكلة كان مستبعدا فلا مكان للانقلابات العسكرية في الديمقراطيات الراسخة، وتركيا اليوم أفضل اقتصاديا مما كانت عليه قبل عقدين؛ فقد قفزت لتصبح دولة صناعية ذات مكانة مرموقة في الإقليم والعالم وهي عضو فاعل في حلف الناتو ولاعب أساسي وقوة عسكرية مهمة في الإقليم.
للمراقبين العرب كان المشهد مدهشا يدعو للتأمل والتفكير والمقارنة؛ ففي عالمنا حدثت العشرات من الانقلابات دون أن يكون للشعوب العربية رأي فيما يحدث لها وحولها وفي العالم العربي الذي يتطلع إلى الحياة الديمقراطية التي ترى الأنظمة العربية بضرورة التدرج في السير نحوها  تارة لكي لا يتم القفز في المجهول وتارة لكي لا يجري إزعاج النظم الأبوية الريعية.
الديمقراطية والعدالة والرفاه التي حققها الحزب الحاكم للشعب التركي هي العوامل التي دفعت بالأتراك إلى اجتياح شوارع أنقرة واسطنبول في ساعات متأخرة من الليل والوقوف في وجه الدبابات والمدافع، فالشعب التركي أراد الحياة وقدّر إنجازات حكومته فاستجاب للدفاع عن حريته وخياراته وازدهاره في وجه العسكر والايدلوجيات التي توجههم.
تحية للشعب التركي الذي أراد الحياة واحترم إرادة الأغلبية وسعى لحمايتها ليقول لنا وللعالم إن التغيير لا يحدث  بضغط فوهات البنادق وتحت جنازير الدبابات وبساطير العسكر وإنما من خلال برامج التنمية وإرادة الناخبين وصناديق الاقتراع.