الشعوب العربية ليست بليدة..!

تنظر إلى الجماهير العربية وهي تنزل إلى الشارع وتطالب بالتغيير، فتراجع ما قد يكون قد خالطك من أفكار عن استسلام الشعوب العربية للتدجين وفقدانها قدرة الحلم. مع كلِّ الأهوال التي جلبها ربيعهم المأمول الذي رحل مبكراً في أكثر من مكان، ما يزالون يصرون على إسماع صوتهم والمطالبة بالفرصة والتغيير. وبعد أن ساد انطباع بأن عودة الاستبداد في أماكن "الربيع" وتخويف الناس من مغبة المحاولة عصمت المستبدين من غضب الجماهير، أظهر الجزائريون والسودانيون أن الاستبداد سيظل دائماً في متناول الناس غير المعجبين بما يُملى عليهم.اضافة اعلان
ما يزال الأمل أن يصادف الجزائريون والسودانيون حظاً أفضل من نظرائهم الذين إما عادت الغِربان نفسها لتحط على أكتافهم، أو غالتهم الحروب ودمّرت عيشهم وبلدانهم. ولعل فضيلتهم الإضافية هو تأكيدهم على أن الشعوب التي اعتقد الكثيرون بموتها وقصر نفسها تحتفظ بقدر هائل من الحيوية والشجاعة والعناد. ويعرف الذين جرّبوا التظاهرات ما يعنيه الخروج من أمان البيت إلى شارع مكشوف، في مواجهة قوى وقوات مهنتها الاعتقال وإطلاق الغاز والرصاص بلا تردد، خاصة بعد رؤية الصفوف الأولى وهي تتلقى الضربات.
مشكلة الشعوب العربية ليست بالتأكيد عيباً خلُقيا أو تشوُّها جينيا جمعيا في قدرات الإدراك. وفي الحقيقة، تتعدد المداخلات التي تسرد مقدمات ما أصبح واقعا طاحنا غير مريح لنفسية الإنسان العربي. ويُذكر في جملة الأسباب الاستعمار المباشر، ثم غير المباشر عن طريق الأنظمة المحلية التابعة التي تطبق نيابة عنه سياسة "فرق تسُد" على كل الصعد، وتسيء توزيع الثروات وتهدر الموارد، وتبني اقتصادات رعوية وتحبط طاقات مواطنيها.
لعل أسوأ ما فعلته هذه الأنظمة طوال عقود، هو إغلاقها الأبواب بعناد أمام أي فكر جديد. وقد استخدمت أدوات التأثير والبناء الاجتماعي الحاسمة التي تحت يدها -الإعلام والتعليم وآليات التحكُّم في التعبير المسموح والممنوع- لتصنيع عقل جمعي سكوني سلبي غير مضياف للاقتراحات جديدة. وإذا سمحت الأنظمة لشيء بالعمل، فلأشكال من منظومات الفكر السكونية بنفس المقدار، والتي وظفت قدرتها على الوصول الشعبي لتحقيق نفس الغايات من تعطيل العقل النقدي، وعقلنة الخزعبلات، وتعظيم "فضيلة" الاستقبال بلا استنطاق.
كل ذلك أعدم فرصة الناس في التفاوض مع مركز فكري ثالث مختلف، يمكن أن يعرض عليهم تمرينات وممارسات مختلفة للعقل، ويقترح عليهم مراجعة وتصحيح نظراتهم العالمية التي هبطت عليهم غالباً من علٍ. وفي مرحلة ما، صنعت فترة من الانفتاح نهضة عربية لا تخطئها العين، عندما اشتبك جملة من المفكرين مع الأفكار المتداولة في بقية العالم، ونشروا رؤاهم الإصلاحية المكيَّفة محلياً، والتي تفاعلت معها الجماهير وصنعت فارقاً. لكن الأنظمة، ورعاتها، وحلفاءها المحليين من المدافعين عن المسلمات، سرعان ما تنبهوا وضموا القوى في حرب شرسة على مثل هذه الأصوات والاتجاهات المختلفة المتحركة، وأسكتوها بكل وسيلة ممكنة.
بالإضافة إلى الأفكار الليبرالية الغربية التي بسطها المفكرون المتنورون للناس، تجاوزت حراس البوابات المتيقظين خلسة أفكار اليسار العالمي، الداعية إلى تغيير المجتمع إلى حالة أكثر مساواة بين الأفراد. ولقيت هذه الأفكار نفس المقاومة العنيدة من تحالف الأنظمة الخائفة على نفسها والمنظومات السكونية التي تخشى تفكيكها، وتعرض دعاة التغيير للملاحقة من أجهزة الأمن، وللعزل من المجتمعات التي أقنعوها بأن هؤلاء يعتدون على هويتها وتقاليدها وعقائدها، وما هو أسوأ. وحتى عندما وقعت انقلابات في دول عربية قامت بها جهات تقمصت هذه الأفكار، سرعان ما لبس هؤلاء أزياء العسكر وتنكروا لما ادعوه، وتحولوا إلى آلهة أرضيين مهوّسين بحب أنفسهم والتشبث بالسلطة، والذين قاموا بتصفية الرفاق واستهداف المعارضين. وانتهت مغامرة اليسار العربي الذي كان قوامه "الأنتلجنسيا"، بانهيار المعسكر العالمي الذي يمثل هذه الأفكار نفسه.
مع كل ذلك، وكما تبين، لم يكن سكوت الجماهير العربية في جوهرها قناعة بالراهن المريع أو مظهراً لبلادة مطبقة، كما يقترح البعض. بل بذل الناس محاولات متكررة للإفلات –بغض النظر عن درجة النجاح- والتي قادها أشخاص عملوا ضد قوى شد عكسية هائلة. لم يكف العرب العاديون عن القتال ضد الاستعمار الخارجي أو الاستبداد المحلي، وحاولوا دائماً التفاوض مع المتاح من أفكار بأكثر من المتاح لهم من هامش. لكن خبرة "الربيع العربي" أظهرت أن إحباط مساعيهم يرجع إلى غياب "القيادة"، و"البديل الثالث" الذي لم يسمح له بالتنفس البديلان الآخران: العسكر؛ والدين السياسي -بدرجة أقل.