الشهداء قبل دخول "البوستر" بساعتين

تتراجعُ الأساطيرُ لصالح الناس العاديّين.
ونكتشفُ في لحظةٍ نادرة أن الأبطال في الحكايات القديمة هم "نحن".
نحن الرواة ونحن كذلك "الرواية". نحن القصة التي تُحكى قبل النوم، ونحن المبهورون بالقصّة. اضافة اعلان
لم يعد الشهداء طيوراً بيضاء مُتَخيَّلة، ولها أجنحة، فالشهداء الآن أطفال يموتون خلال دوام المدارس، وأمهات يطبخن، وسائقو سيارات أجرة يموتون خلال نقل الركاب، والفضائيات تنقل لك اللحظات الأخيرة في حياتهم، وآخر ما قالوه، وتوثّق ضحكاتهم على وجوههم كما هي؛ فلن تنتظر سماعها من الرواة في المستقبل!
الشهداء مثلنا؛ أشخاصٌ عاديون كانوا على رأس عملهم، ثم أخذوا مغادرة ليموتوا من أجل الوطن!
الكاميرا تُسجّل الساعة الأخيرة في حياة ربة البيت قبل أن تحمل لقب الشهيدة، وتُسجّل الإفطار الأخير للعائلة، وتُصوّر الشهيد وهو يضحك أو يمزح أو يشتم أو يشتري الخبز قبل أن يمشّط شَعره ويدخل الى "البوستر" الملوّن بضحكة مُجمّدة!
الشهداء منّا، وليسوا أشخاصاً غريبين مهمتهم الوحيدة صنع القداسة لقضيةٍ ما، للإعلاء من شأنها.
ها هم على شاشات التلفزيون، بضحكاتهم التي نعرفها، بملابسهم التي نحفظها، بلهجاتهم التي تفضح أنهم أقارب لنا، أو جيراننا، التقينا بهم في المصعد قبل قليل أو على باب مطعم يستعجلون صحن الفول أو صالون حلاقة يتذمرون من الجو الحارّ.
الشهداء ليسوا حكايات يؤلفها الصحفيون، وهذا الأب الذي يحمل جثة طفلة رضيعة على التلفزيون ليس ممثلاً، بل أب حقيقيٌّ وهذا الدمع حقيقيٌّ جداً!
والأطفال لن ينتظروا درس التاريخ في السنوات اللاحقة ليقرؤوا التاريخ، فها هم يكتبونه، ويرونه أمامهم وسيجادلون فيه أساتذتهم بثقة وبحجج دامغة وأكفٍّ مبلَّلةٍ بالدم!
أما الأساطير التي كنا نسمعها في طفولتنا عن الشجعان والأبطال فتتراجع الآن من مخيلات الأطفال، والكبار، وحتى من مخيلات المخرجين والشعراء، لأن الواقع أشدّ سطوعاً، ولم تعد المخيلة تَلزم لصناعة فيلم أو رواية، فأي إبداع يستطيع أن يجاري فتى في التاسعة عشرة يُقلق راحة دولة احتلالٍ بحالها !
لن تعود السينما مُقنِعةً بعد الآن، ولا الشِّعر، وربما يكون المجد من حظّ الفيلم الوثائقي وحده. لن يعود الرواة ضروريين فالأمهات الثكلى سيقمن بالدور، ولن يكون التاريخ كله مهماً..
فالتاريخ يكون ضرورياً حين نتحدث عن بطولات "مالك بن الريب" أو "أبو زيد الهلالي سلامة"، لكنّنا ونحن نتحدث عن ابن خالتنا، أو ابن جيراننا، يكون من الضروري أن نفهم: هؤلاء لم يموتوا من أجل أن يصنعوا "التاريخ"، بل كان كل همّهم أن يجدوا مكاناً في "الجغرافيا"!
يموتون من أجل بيت، أو جدار بيت، وقليل من الظل حدّ جدار البيت.
السكنى في التاريخ، وفي الأغاني، جرَّبها الناس مائة عام فلم تكن بيوت الشِّعر لتغنيهم عن بيوت الطين الحميمة.
كل ما كان يريده هؤلاء الناس أن تجتمع العائلة كاملةً ولو مرةً واحدةً على العشاء!