الشيخ عبدالكريم الخصاونة

د. أحمد ياسين القرالة

عرفت هذا الشيخ الجليل قبل أن أرى طلته البهية وأشاهد سمته الوقور، أحببته من طريقة كلامه وأسلوب حديثه، أسرتني عذوبة كلماته ورقة أحاسيسه وجميل احترامه، كان ذلك منذ ما يقارب من عقدين من الزَّمان، حيث اتصلت بمديرية الإفتاء في قواتنا المسلحة طالباً التحدث إلى مسؤول فيها لأمر يخص الجامعة، فأجابني الشيخ عبدالكريم وعرَّفني بنفسه وكان وقتها برتبة عقيد، تحدثنا قليلاً فوجدت منه التواضع وكريم الخلق وحسن الأدب، ومن تلك اللحظة وأنا أحبَّه ولا عجب في ذلك فالأُذن تعشق قبل العين أحياناً، ثم جمعتنا الأقدار والتقينا مرات عديدة حيث زرته في بيته فرأيتُ كرمَ الضيافة وحسنَ الاستقبال ورحابةَ الصدر ورجاحة العقل، ووقفت على مقدار الاحترام الذي يحظى به عند زملائه في القوات المسلحة وعند الناس عامتهم وخاصتهم.اضافة اعلان
ومما أعجبني في الشيخ فضلاً عن أخلاقه الكريمة وعفة لسانه وطهارة قلبه ارتباطُه بأسرته وحسنُ تربيته لأولاده وقد أثمر ذلك برَّاً واحتراماً وحرصاً على سمعته، فتجد الواحد منهم حريصاً على توقي الوقوع في الخطأ حتى لا يتحمل الوالدُ وزر فعله.
عمل الشيخ بعد تقاعده مفتياً عاماً للمملكة ثم قاضياً للقضاة، وقد اجتهد في خدمة زملائه والكادر الذي يرأسه، واتسمت إدارته بالإنسانية -وهي من أبرز خصائص الإدارة في الإسلام- واتصفت سياسته بالحكمة والمرونة، وتفهم ظروف الناس وتقدير أحوالهم.
وقد اختلفتُ مع الشيخ في أمور عديدة ومن ذلك الموقف من قانون الأحوال الشخصية الأخير وكتبت حول ذلك مقالات عديدة، وتحدثت معه في هذا الموضوع شخصياً بحضرة عدد من كبار القضاة، فوجدته أكثرَهم تفهماً وأشدَّهم احتراماً للرأي وتقبلاً للاختلاف، وقد امتزج ذلك كله بأدب رفيع ودماثة خلق تأسر القلوب كفيلة بزحزحة الشخص عن قناعاته وحمله على تلطيف مواقفه والحدِّ من تصلبه.
وكان من كريم خلقه يرسل إليَّ الرسائلَ مع الأصدقاء يشيد فيه برصانة ما أكتب وإنْ كان يختلف معي ولا يوافقني في بعض الآراء والاجتهادات، وهنا تتجلى عظمة الرِّجال وموضوعيتهم ونبل مواقفهم.
أذكر أنني وقبل شهر صليت في مسجد كان الشيخ خطيبَ جمعته فكانت خطبةً مميزة تفيض صدقاً وإخلاصاً وتحمل من المعاني الروحية والأخلاقية ما يعد منهاجاً عاماً للتغير الاجتماعي، وقد أثنيت على تلك الخطبة، وما أنْ علم بذلك حتى بادر متصلاً شاكراً ومقدراً بعبارات تدلّ على تواضع عجيب وتقدير غريب لا يصدر إلا عن نفوس كبيرة وأخلاق نفِيسة.
الشيخ عبدالكريم الخصاونة قامة دينية سامقة وشخصية وطنية شريفة جمعت بين حسن الخلق ونظافة اليدِّ وكريم السيرة والسلوك تستحق التقدير والتبجيل وأعظم التكريم، فليس منَّا من لم يوقر كبيرنا، ولا شك أن شيخَنا الجليلَ كبيرٌ بأخلاقه، كبيرٌ بتواضعه كبيرٌ بوطنيته.