الشّتاتُ الفلَسطيني: تَهجيرٌ آخَر!

من المؤسف أن تأتي المصالحة الفلسطينية بين "الفصيلين"، تحت ضغط تخلّي الآخرين عنهما، وعلى أسس تبدو مَرحليّة بكلّ وضوح. وعلى الرغم من أن فكرة التعددية تظل جذابة، فإن التعدّدية الفلسطينية نسيجٌ وحدها، فريدة في تجلياتها، ومكافئة فقط لمفهوم "التشرذم". ومن الغريب حقاً أن لا يفضي اشتراك الجميع في فجيعة النكبة والاحتلال المجنون، إلى توحيد الجميع حول الهدف الأسمى: تحرير فلسطين؛ والاتفاق على الآلية الوحيدة المُجدية: المقاومة.
يتحدث المعلقون الآن عن أزمة السلطة الفلسطينية بسبب "المصالحة"، حيث تعاني بين ضغط المانحين الذين يشترون مواقفها بإدامتها بالمساعدات، وبين شدّ الشارع الفلسطيني المطالب بالوحدة. ومثل كل شيء بُني على أسس هزيلة، فإن تحركات السلطة الفلسطينية الأخيرة هي ترقيع للترقيع، وذهاب من أزمة إلى أخرى. وآخر ما حُرّر في النضال الفلسطيني، هو مشروع تسوّل اعتراف بدولة "بانتوستان" غير قابلة للحياة، جزاءً وفاقاً لإنكار حكمة الشاعر: "ولكن تُؤخَذ الدُّنيا غِلابا".
وهكذا، تراوح حتى هذه "المصالحة" غير المُقنعة، وغير المنطوية على حُسن النيّة بين "فتح" و"حماس" في منطقة الأزمة. لكنّها حتى لو كانت كاملة، لا تجسّد عنوان "المصالحة الفلسطينية". والسبب بسيط: ليس كل الفلسطينيين هم "فتح" و"حماس". وسأتحدث عن فلسطينيين مُهمّين، لا تتصالح "القيادة" معهم، وكأنها وضعتهم خارج القسمة ولم تحسب حسابهم بشيء: فلسطينيي الشّتات.
لو سألت معظم فلسطينيي الشّتات: أي دور يُسنَد إليكم في قضيتكم غير الذي أوكلتموه لأنفسكم والتزمتم به من التمسُّك بهويتكم وبفلسطينيتكم، لأجابوا -محقّين: "والله كأننا أغراب، لا يستشيرنا من رَبْعِنا أحَد، ولا يُعنى بالتصالح معنا أحد –وكأننا أيتامٌ على مأدُبة لِئام". فأيُّ تواصل مثالي -يحتاج خرزة زرقاء- بين قيادة الثورة وقواعدها! وأيّ بُعد نظر، حتى لو كان براغماتياً، تتمتّع به هذه القِيادة حين تُغَرِّبُ أكثر من خمسة ملايين فلسطيني وتحيّد طاقاتهم، وكأنهم حِملٌ فائض وشوكة في الحَلق!
لفتَ إلى هذه "الغلطة التاريخية" –كما أسماها، مصدر غير متوقّع، وبحُرقة: "جيف هالبر" رئيس اللجنة الإسرائيلية لمقاومة هدم المنازل. وجاءت ملاحظته في معرض نقده لأداء السلطة الفلسطينية في التعاطي مع مشروع إعلان الدولة المزمع في أيلول (سبتمبر). وقال إن حليف السلطة ليس الحكومات، وبالتأكيد ليس أميركا التي كرّست حياد موقف الفلسطينيين طوال 40 عاماً. إن حليف الفلسطينيين الأكثر ولاء وقوة، في رأيه، هو المجتمع المدني الذي تهمله القيادة الفلسطينية وتتجاهله.
ومن الدوائر الثلاث للمجتمع المدني المهمَل: (الفلسطينيين؛ والعرب والمسلمين؛ والناشطين الدوليين)، ميّز هالبر فلسطينيي الشتات: "الدائرة الأولى، بالطبع، هي الشعب الفلسطيني نفسه. هؤلاء النازحون، المبعثرون، المظلومون، المحتلون، الذين يناضلون من أجل حقوقهم الوطنية والثقافية، (...) ما يزالون يعطلون، جيلاً بعد جيل، ليس الآلة العسكرية الإسرائيلية المتبجحة فقط، وإنما آلة مؤيدها الرئيسي أيضاً، الولايات المتحدة، التي استخدمت إسرائيل طوال عقود لتكون موقعها المتقدم في الشرق الأوسط".
ويمضي هالبر: "بالنسبة للمضطهدين في كل مكان، أصبح الفلسطينيون مصدر إلهام، (...) وشكلت قدرتهم على الصمود دليلاً على أن من الممكن مقاومة الظلم، حتى وإن كان مدعوماً بالأسلحة الأكثر تطوراً ومن القوى الأعظم. لكن إسرائيل نجحت، بمساعدة الزمن والجغرافيا، في تفتيت الفلسطينيين. وأصبح اللاجئون في المخيمات مستبعدين تماماً تقريباً من العمليات السياسية".
"لأنهم (فلسطينيو الشتات) متعلمون تعليماً عالياً في معظمهم، وطليقون في كل اللغات الأوروبية، فإنهم يمكن أن يلعبوا دوراً رئيسياً في الترويج للقضية الفلسطينية في الخارج. وقد احتل بعضهم مواقع مؤثرة على الرغم من استبعاد قيادتهم في الضفة لهم، بل ومقاومتهم أحياناً. وبدلاً عنهم، أوفدت السلطة الفلسطينية، مع استثناءين بارزين، رهطاً دبلوماسياً من الأقل كفاءة والأكثر عَيّاً على الإطلاق. وبدلاً من استخدام أثمن أرصدتها: شعبها في الخارج (...) قيّدت السلطة الفلسطينية يديها بنفسها
–دبلوماسياً- في الوقت الذي تشن فيه إسرائيل هجوماً دولياً ضدها".
عندما طرد شارون المقاومة من بيروت في العام 1982، قال درويش: "هيّ هِجرّة أخرى، فلا تّذهبْ تَماما". وهذا التهجير الجديد لفلسطينيي الشتات من جهة "القيادة" غير الحصيفة، مُستَهجن وغَبيّ. لكن فلسطينيي الشّتات لم يذهبوا تماماً كل هذه السنين، ولنْ يذهبوا الآن.

اضافة اعلان

[email protected]