الصدق العاري

تقول الأسطورة إن الصدق والكذب التقيا من غير ميعاد، فنادى الكذب على الصدق قائلا: "اليوم طقس جميل"، نظر الصدق حوله، نظر إلى السماء، وكان حقا الطقس جميلا، قضيا معا بعض الوقت، حتى وصلا إلى بحيرة ماء، أنزل الكذب يده في الماء ثم نظر للصدق، وقال: "الماء دافئ وجيد"، وإذا أردت يمكننا أن نسبح معا؟ وللغرابة كان الكذب محقا هذه المرة أيضا، فقد وضع الصدق يده في الماء ووجده دافئا وجيدا.اضافة اعلان
قاما بالسباحة بعض الوقت، وفجأة خرج الكذب من الماء، ارتدى ثياب الصدق، وولى هاربا، خرج الصدق من الماء مضطرا عاريا، وبدأ في البحث في جميع الاتجاهات عن الكذب لاسترداد ملابسه.
العالم الذي رأى الصدق عاريا أدار نظره من الخجل والعار، أما الصدق المسكين، فمن شدة خجله من نظرة الناس إليه عاد إلى البحيرة وأختفى هناك إلى الأبد، ومنذ ذلك الحين يتجول الكذب في كل العالم لابسا ثياب الصدق، محققا كل رغبات العالم، والعالم لا يريد بأي حال أن يرى الصدق عاريا.
في السياق، ومن واقع القصة الروسية الأسطورية تلك، فاننا نطالع يوميا ونحن تتصفح العالم الافتراضي الأزرق (فيسبوك) عشرات القصص والمواقف من أشخاص، بعضهم تعرفهم عز المعرفة، وتعرف يقينا انهم ابعد ما يكونون عما يكتبون، وبعضهم الآخر تقرأ لهم مقالات حينا، وخواطر حينا آخر، وتعرف يقينا كيف وصل اولئك وأي الطرق سلكوا لتحقيق غايتهم، فينتابك الاندهاش جراء مواقفهم المتناقضة.
بعضهم قد يُنظّر علينا بحب الأردن صباح مساء، وهو في حقيقة امره ينتظر الساعة التي يستطيع فيها مغادرة المكان إلى غير رجعة، ويمني النفس بهجرة هنا أو هناك، وبعضهم يهاجم كل من ينتقد أو يرفع صوته للمطالبة بالتغيير، وقد يصل به الأمر للتشكيك بالناس وبمواقفهم، وان اشاحت الدولة وجهها عنه، أو لم ينل موقعا يتمناه، يكون صوته أعلى من كل الأصوات، فينتقد ويكتب ويهول.
اولئك الذين يجودون علينا يوميا بحكم وأمثال، ومواقف عنترية يشعرونك انهم ينافسون افلاطون بحكمته، وانهم يضعون غيفارا خلف ظهورهم بنضالهم، وان غاندي ومانديلا يتعلمان منهم طرق المعارضة واساليبها، ويفوقون ابن رشد بفلسفتهم للحياة.
فالحكم الإنسانية التي نراها يوميا من خلال المتصفح الأزرق، والمواقف السياسية التي نلمسها منهم في العالم الافتراضي، تنقلب رأسا على عقب عندما تخالط بعض اولئك أو تعرفهم من قرب لسبب أو لآخر، فاولئك الأبطال الافتراضيون يتناسون كل ما يكتبون على جدران متصفحهم الأزرق، وسرعان ما تظهر حقيقة مواقفهم سواء الجهوية أو العشائرية أو العنصرية، فتنكشف حقيقة أولئك وهم كثر، وتلمس أن سوادهم يتسترون خلف قناع متصفحهم الأزرق، فتتفاجأ من جرأتهم في تلوين وجوههم وتصنيف الدول وشعوبها، فيجهدون لتبييض صفحات دول باتت مواقفها معروفة وواضحة للجميع.
اولئك كما جزء كبير من العالم لا يعرفون معنى الصدق، ولا يريدونه أن يسكن في نفوسهم، فهم يلبسون ملابس الصدق، وفي حقيقتهم غير ذلك، فيخفون مشاعر سوادوية وعنصرية وجهوية، واحيانا تفتيتية، تحت يافطة الصدق الذي يحاولون اظهاره وهم خلاف ذلك.
فعلا، العالم اليوم بات يرفض رؤية الصدق الحقيقي، وانما يريد أن يستمر الكذب بلبس ملابس الصدق والتجول بها، فلو فعلا نريد الصدق أن يسكن بيننا لرأى العالم أن الكيان الصهيوني مغتصب لارض ليست له، وان واشنطن منحازة، وان الأمم المتحدة التي كانت عنترية في التعامل مع العراق والصومال واليمن وسورية وإيران تقف مكتوفة اليدين أمام الكيان الصهيوني.