الصدمة والحقيقة

للوهلة الأولى لم نكن لنصدق أن تصل مجتمعاتنا إلى حد ممارسة القتل والتعذيب على أساس الفكر، ولم نكن نتصور أن يأتي يوم تتسلل فيه جماعات تحاكم الناس على أفكارهم ومعتقداتهم، وتعلن أن التفكير ممنوع، كنا نعتقد ببساطة أن مجتمعاتنا في مأمن من هذه الظواهر إلى أن باتت تتكرر، والأخطر من ذلك أن يتم التواطؤ معها بشكل أو بآخر ومن مستويات متعددة . فالسؤال اليوم وبعد سلسلة من الحوادث الصادمة من قتل إلى ترويع على أساس الفكر إلى المنع والرفض والاستبعاد هل نحن أمام موجة من الظلمة والتعتيم .اضافة اعلان
علينا أن نعترف أن الصراعات التي شهدناها في السنوات القليلة الماضية في المجتمعات العربية، ما تزال استمرارا للصراعات التاريخية التقليدية ضمن ثنائية النخب والطبقات الحاكمة، أما الصراع الحقيقي داخل المجتمعات الذي يحرك الراكد الحقيقي فيها ويجعلها تملك مصيرها فلم يخض بعد، وما تزال هذه المجتمعات تحتاج إلى جرعات من ثقافة الصدمة التي تعيد الصراع حول القيم وشكل المجتمع وبنيته وأنساق العلاقات فيه ومفهوم القوة ومصادرها.
المشاهد المتكررة اليوم ترسم صورة قاتمة وصادمة ولكن ما تزال هذه المجتمعات والكيانات بحاجة إلى المزيد من الصدمات ؛. وهذا المآل يرتبط بالقدرة على استمرار الحياة في هذا الجزء من العالم في ضوء فشل التنمية وفشل نموذج الدولة الوطنية السائد، وما ستعكسه نماذج الصراعات المقبلة من تحولات قاسية على نوعية حياة الأفراد والمجتمعات. فيما يبدو أن فرصة ظهور الدولة الوطنية الديمقراطية التي تحترم عقل الانسان وخياراته على المديين القريب والمتوسط محدودة؛ فلا توجد أدلة في سياق التطور الاجتماعي والسياسي تذهب في هذا الاتجاه على مدى العقد المقبل على أقل تقدير .
على الرغم من حيوية الشعوب العربية التي أدهشت العالم قبل نحو سبع سنوات بقدرتها على تحريك البحيرات الراكدة وخلخلة الأرض تحت الأنظمة السياسية الفاسدة، فإننا نقف اليوم عند حقيقة ماثلة، تشير بوضوح إلى أننا أكثر الشعوب قدرة على إعادة إنتاج الاستبداد والفساد. إن حالة التشوه التي مرت بها المنطقة، لا تقتصر على شكل الدولة السياسي، بل نالت المجتمعات العربية أيضا. ومن دون الاعتراف بأزمة المجتمعات العربية؛ بأبعادها السياسية والثقافية، فإنه لا يمكن إنقاذ الدولة الوطنية العربية، أو بناء التنمية والتحديث.
الثورات الحقيقية المنتظرة ما تزال بعيدة ومؤشراتها غامضة؛ تلك الثورات العميقة التي تحرك طبقات من الخوف والجهل والعوز، وتنتقل من صراع النخب الذي استهلك أكثر من قرن على شكل صراع بين النخب والسلطات، إلى صراع حقيقي داخل القواعد الاجتماعية، يسأل عن الحسم ويصنع التغيير الذي يلمسه الناس وينعكس عليهم. وبالمعنى التاريخي، فإن الموجة الراهنة من صراعات الأفكار والعقائد والطوائف، ستتبعها موجة أكثر ظلمة، حينما تتحد الظروف الراهنة مع المزيد من العوز ومن الصراع على الموارد.
كي لا نخسر معركة النقد الثقافي للمجتمع العربي وهي في مهدها؛ أي المعركة التي كان من الممكن أن تدير الإصلاح الديني وتخلق القطيعة مع مصادر الهوس المرضي باسم الدين، والمعركة التي يفترض أن تبني عقلانية جديدة في التعليم والتنمية والتحديث، كما هي الحال في الديمقراطية والرشد في إدارة شؤون الناس، فإن علينا استعادة أدوات النقد الثقافي وتطويرها، وأن نضفي عليها المزيد من العقلانية بعيدا عن التزييف والتضليل. فالنقد الثقافي للمجتمعات في المحصلة، أهم مئات المرات من النقد السياسي؛ كما أنه الأساس المتين الذي سيقف عليه الإصلاح .