الصراع على الرأي الرأي العام الرأي

في مناخات الثورات العربية المنجزة والأخرى التي تنتظر، هناك نقاش غير معلن أو يدار أحيانا بخجل؛ هل تجاوز الرأي العام دوره؟ وهل يوجد شطط في أطروحات ميدان التحرير؟ وهل فاض الكيل في قصبة تونس؟ ولم لا تمنح القوى الجديدة الفرصة التي تحتاجها لإنجاز المهمة الانتقالية؟اضافة اعلان
في كل الثورات التي عرفها التاريخ هناك مساحة زمنية للفوضى، ولكنها فوضى من نوع خاص تتيح أن تُخرج الأرض ما في بطنها كي تمكن في نهاية اليوم من تحويل الثورة إلى سلطة. وهنا يبدو السؤال العميق: هل نريد أن تتحول الثورات إلى سلطة، فيما تنسحب لعبة الصراع على الرأي العام على المجتمعات التي تنتظر دورها والأخرى التي توصف بالاستقرار؟
يصنف الأكاديميون الرأي العام إلى رأي قائد وآخر منقاد، ورأي عام راشد ورأي عام مضلل، ورأي عام معلن وظاهر وآخر مستتر وباطن. ويرتبط تحقق أي من تلك الثنائيات بمستويات التطور الاجتماعي والسياسي السائد، وبالتحليل النهائي وعي المجتمع لذاته وقدرته على إنتاج تاريخه بأدواته الذاتية. ولا يمكن لأي سلطة سياسية في العالم أن تحتكر الرأي العام على مدى التاريخ، ولا يمكن لفئة أو نخبة أو حزب أن يدعي تمثيله للرأي العام على المدى؛ فتراكم وعي الناس وصياغة الاتجاهات عمليات معقدة تتداخل فيها قوى وأدوات وعناصر متناقضة وعديدة، وبالتحديد في مراحل التحول وما يرتبط بها من تغيرات اجتماعية.
كما أن الرأي العام هو الأداة السحرية في يد الحكومات، تضرب به وتبطش، ويصبح الرأي العام عصا موسى السحرية بيد المعارضة والنخب المتقاعدة تتكئ عليها كلما انحنى ظهرها، وتلوح بها مهددة متوعدة كلما ازداد ذلك الظهر قوة، بينما الرأي العام، الإرادة العامة، الإجماع العام، ضمير الشعب.. لا حول ولا قوة له، بل ويتم تحميله مسؤولية الفساد وخراب الضمائر العامة؛ فالشركات الوطنية تخسر وتفلس بسبب ضغوط والتزامات مجتمعية، وهي في الواقع جزر معزولة تنهب خيرات المجتمع وثرواته؛ والناس يموتون على الطرقات بسبب عدم التزامهم بالقوانين، ولم يسأل أحد عن دور الطرق على سبيل المثال أو عن مدى فاعلية تطبيق القوانين؛ وطلبة الجامعات يمارسون طقساً سنوياً من الغزوات والاقتتال بسبب جهلهم، والثقافة الثأرية السائدة في أوساطهم، ولم يلتفت أحد إلى أنهم يمارسون تلك العصبيات في حاضنات صياغة التفكير والثقافة.
وفوق سلوك الحكومات والمعارضة والنخب السياسية، تضطلع وسائل الإعلام في نشر مهارات إفساد الرأي العام، باعتبارها أدوات أساسية في تغذية وعي الناس وتحديد أجنداتهم وضبط تطلعاتهم امتداداً لكونها في الأغلب أدوات في أيدي أطراف اللعبة السياسية المحلية وارتباطاتها الخارجية. اليوم تتفوق وسائل الإعلام في غياب المهنية، وتخلف الوسيلة، وافتقاد قيم العمل، على كل فنون إفساد الرأي العام التي عرفها التاريخ.
من المفترض إن الإعلام المهني هو حارس الرأي العام ودليله إلى الوعي وكشف الحقائق، وأداة أساسية لتزويده بالمعرفة وبأحوال البيئة المحيطة به، إلا إن ما نشهده يومياً من أنماط تعامل الإعلام مع الرأي العام تبدو في استغفال وعي الناس بهدف تضليلهم أو السخرية المباشرة من عقولهم؛ إذ أسهمت وسائل الإعلام وعبر موجات متتابعة من التراكم البائس في إفساد الرأي العام، ما جعله منقاداً بسلبية فجة لمصالح نخب صغيرة تدّعى أنها تمنح الناس قبلة الحياة من خلال ما تقدمه من مقولاتٍ وعبرٍ جليلة تصبح عناوين المرحلة ومفاتيح الدخول إليها. بكلمات أكثر وضوحاً، ثمة تحالف غير مقدس بين وسائل الإعلام وأدوات الاتصال الأخرى من جهة، وبين النخب الحكومية والمتقاعدة وقوى المجتمع الأخرى المتحفزة نحو التمكن من السلطة والثروة والقوة من جهة أخرى، ينظمها نسق من المصالح بهدف اغتيال الرأي العام وإفساده وتحويله إلى إمعة بلهاء، فيتحول الناس إلى مؤيدين ومؤازرين ومصفقين من دون أن يدروا لماذا ولمن.
يفسُد الرأي العام بمصادرة وعي الناس حينما يتحول قادة الرأي في المجتمع من مثقفين ووجهاء اجتماعيين ورموز محلية إلى أدوات لتسويغ وتبرير الفساد جرياً وراء مصالح صغيرة تلقيها لهم مراكز القوى في الطرقات. ويفسد الرأي العام حينما تُغيّب الحكومات أدوات المساءلة والرقابة والكشف، ويتخيل الناس بأن ما يجري ما هو إلا لزوميات السير بهم نحو الرفاه والرخاء. ويفسد الرأي العام حينما تتحول المعارضة إلى أبواق للشتم والتربص من دون برامج عمل سياسي ومجتمعي، ما يفقد الناس الثقة والإيمان بالتعدد وبمنهج النقد، وبالتالي يفقدهم الثقة بالتغيير.