الصراع مع عدو شبحي..!

ظنت البشرية أكثر من مرة أنها أفلتت من الأوبئة والجوائح عندما اخترعت علاجات ولقاحات ضد الطاعون والجدري والكوليرا والديزنطاريا والإنفلونزا الأسبانية ومثيلاتها. وقد حصدت هذه الأوبئة مئات الملايين من الأرواح –حرفيا- في موجات انتشارها قبل أن تنسحب –مؤقتا- أمام الدهاء البشري. وكعادة هذه الكائنات التي تسمى الفيروسات، فإنها تتحسس بغريزة فائقة مواطن ضعف البشر، فتهاجمهم في أوقات الحروب، أو في البيئات الفقيرة التي تكون دفاعاتها ضعيفة. ولم تخسر الفيروسات حربها أبدا مع البشر. إنها تنسحب فقط لتعود إلى معركة أخرى وقد قدرات فتاكة جديدة: السار؛ الإيدز؛ الإيبولا؛ وإنفلونزا الطيور والخنازير؛ والآن، الكورونا.اضافة اعلان
هذه المرة، اختار جماعة الكورونا بلدا متفوقا في كل شيء تقريبا -حتى أن المدينة التي نشأ فيها الوباء في الصين، ووهان، آية في التقدم والعمارة والحضارة، حيث الشوارع العريضة والأبراج السامقة والترتيب المذهل. ويبدو أن الفيروسات أصبحت تتجاسر على البشر في كل أحوالهم، فلم تعد تُعنى بما إذا كانوا في حالة ضعف أو حرب أو قوة. وفي الحقيقة، تستطيع هذه الكائنات الشبحية أن تفعل أكثر مما تفعل الجحافل والجيوش وأن تصنع نوعا متطرفا من الفزع: إنك لا ترى عدوك ولا تستطيع اصطياده برصاصة أو قذيفة مدفعية. إنه يأتيك بلا شكل، ممتزجا بالهواء نفسه، ولا توقفه أبواب ولا حواجز ولا تحصينات، ويهاجم خلاياك نفسها.
تعرض الشاشات ووهان الصينية العملاقة مشلولة تماما ومدينة أشباح أمام الكورونا. لا مارة في الشوارع ولا أسواق مفتوحة، ولا مقاهي، ولا عمل، ولا قادمين ولا مغادرين. ويكفي تخيل الحالة التي يعيشها الناس المحاصرون في بيوتهم هناك لتصاب بالرعب. إنك إذا أغلقت عليك بابك وانكسر المفتاح في القفل، فسوف يضيق صدرك وتشعر بالهواء ينفد من حولك في الفترة القصيرة حتى تتدبر أمر خروجك. أما أن تكون محبوسا ومفتاحك لديك، ولا تستطيع حتى الفرار من المدينة إلى الأمان مثل لاجئي الحرب، فشيء لا يُحتمل. إنك أشبه بمجند إجباري وضعوه في الجبهة بلا سلاح، والموت يحيط به في كل ذرة هواء ولا يعرف متى قد يأتي الفرج!
يكتب صحفي ألماني تواجَد في ووهان المنكوبة قبل أن يتمكن من الإفلات في اللحظات الأخيرة قبل إغلاق المدينة ومنع مغادرتها: «مثل معظم الناس في المدينة، كنا نرتدي أقنعة طبية كبيرة تغطي أفواهنا وأنوفنا. كان هذا هو الانتصار الجانبي الأول للفيروس: تجريد سكان ووهان من وجوههم. وقد حفرت الأشرطة المطاطية في آذاننا وتعرقت بشراتنا تحت النسيج… وعندما كنا نلمس مقبض باب، كنا نطهر أيدينا على الفور بمطهر. وخلال تلك الساعات الأربع والعشرين كلها، لم نصافح يد أحد على الإطلاق. كان هذا ثاني انتصار صغير للفيروس: عزل الناس، وجعلهم مذعورين ومصابين برهاب الشك».
ويكتب صحفي فرنسي كان هناك أيضا: «غطيت جسمي كله، من قدميَّ إلى يديّ إلى وجهي. ربما يكون هذا مفرطا، ولا أعرف مدى فعاليته، لكنني لا أريد أن أخاطر. قمنا بتطهير ملابسنا، باستخدام مناديل مبللة، ونحاول ألا نلمس الأشياء التي يمكن أن تكون ملوثة مثل مقابض الأبواب. الناس يكونون آمنين طالما يظلون في البيت ويقللون من الوقت الذي يقضونه في الخارج».
أما إذا أصيب أحد بالفيروس، فإن ذلك ربما يصنع أفظع شعور بالهزيمة والوحدة يمكن أن يطارد إنسانا على الإطلاق. سوف يعرف المصاب أنه لا علاج له. وسوف يهرب منه أهله ومحبوه ويتجنب الأطباء ملامسته. وسوف تُمنع عنه الزيارة والمواساة ويُعتقل في الحجر الصحي، في مكان أغلِقَ عليه ويغلب ألا يخرج منه حيا. ولا فكاك ولا مهرب!
والبلد كله أيضا معتقل ومحاصر. لا أحد يأتي إليه ولا أحد يخرج منه إلا في الحالات القصوى. الصين العملاقة، صاحبة المصانع الهائلة التي تدير أجهزتها الحيوية، تكافح هجمة الفيروسات وتسابق الوقت قبل أن يطول تعطل هذه الأجهزة وتتعمق الأضرار. بل إن الناس في الأماكن الأخرى من العالم أصبحوا يخافون من مجرد لمس منتج صُنعَ في الصين! مع ذلك، يغلب أن يكسب البشر هذه المعركة أيضا ضد الفيروسات، ولو أن الناجين من خطوط الاشتباك لن يتعافوا من هول أسطوري يشبه الخيال العلمي.