الصورة التي قد تكون الأخيرة

أرتدي الملابس المكويّة قليلة الاستعمال، وحذاء الشامواه الذي خضع لعملية تنظيف دقيقة لإزالة ذرّات الغبار. لا أنسى بالطبع العطر العربي الثقيل، والنظارة السوداء التي تزيدني ريبة، وفي الطريق أذهبُ إلى الحلاق القريب لتشذيب الشعيرات الواقفات في السالف واللحية. ليست هذه القيافة لأنّي على موعد مع امرأة في الغيب، أو ذاهب للإدلاء بنبأ عاجل، كنتُ فقط أعدُّ الطعام في البيت، فتذكرتُ أنه ينبغي الذهاب إلى البقالة لشراء الملح، وتذكّرتُ أيضاً أن في البقالة كاميرا للمراقبة..اضافة اعلان
المدينة كلها مزروعة نخلاً وكاميرات مراقبة، وهذا يعني أنّ أيّ لقطة لي قد تكون مهمّة في البحث الجنائيّ، فقد أكون شاهداً على جريمة، ويختارني الحظ السعيد للوقوف العفويّ عند ساعة الصفر، وقد تصبح الجريمة مشهورة، ما يعني أن اللقطة ستنتشر مثل الهواء والنّار على مواقع التواصل الاجتماعي والأقمار الصناعيّة.. ولو أنّي أهملتُ قيافتي، وخرجتُ مثلما كنتُ بـ"شبشب" الحمّام، وسروال الصوف، وبلوزة النوم المُبقّعة بزيت الزيتون لأفسدتُ فيلماً تترقبه "نتفليكس"!
كل شيء موثق هنا في المدينة شبه النائمة. حواري الودّي مع عامل محطة البنزين، وسؤال منّي وجواب من الفتاة الآسيوية في متجر كارفور، وابتسامة ملغزة من وراء الزجاج الأسود، حتى المونولوج الداخلي الذي يتصاعد غضباً عند الاصطفاف إلى الخلف.. وكل هذه المشاهد الرتيبة في الشوارع الخالية من كلّ أسباب الدهشة، قد تصبح في لحظة بين تاريخ وتاريخ حدثاً كونياً أو أقل قليلاً، المهم أني قد أجد نفسي في الصورة.. التي قد تكون الأخيرة.
أصبحتُ مهووساً بهيئتي "الأخيرة"، فلا يمكن أن أخرج قبل التأكد من وسامتي المنقوصة، ومستوى الشعر على جبهتي، أبقى متيقظاً كي لا أفعل أشياء غبيّة حين أكون سارحاً والكاميرا في مكان عال تراقبني، كأن أضع إصبعاً في أنفي أو أبلل شفاهي بلعابي، حتى حين أكون في المصعد الكهربائي وحيداً، أكون متيقّنا أنّي لستُ وحدي، ما يضطرُّني لا ستدعاء كلّ هيئات أحمد زكي الرزينة حين كان هارباً أو وزيراً أو زوجاً مهماً، أو حتى بوّاباً بدرجة "بيه"!
أنا الآن على وشك الخروج من البيت. لديّ موعد مع امرأة في الغيب، وقد أضطرّ للإدلاء بنبأ عاجل. أقفُ أمام المرآة كأنّي عريس أو وزير قبل القسم، أتفقّد ملابسي المكويّة، وحذاء الشامواه، ونظارتي السوداء ومستوى الشعر في السالف واللحية.. كلّ شيء منضبط، ولائق للصورة التي قد تكون الأخيرة. أقترب من السيّارة، أتذكّر أنّي نسيتُ شيئاً يجعلني ناقصاً. عدتُ عدة مرات حتى تذكّرت الشيء الوحيد الذي لن تكتمل الصورة الأخيرة من دونه.. العطر العربي!