الطريق إلى "عمارة دوار الداخلية"!

 

أحبُّ الحياة "إذا ما استطعتُ إليها سبيلا". لكنَّ نواصيَ كل الطرق، التي أحاولُ الدخولَ منها تتصدَّرُها شاخصة حمراء، بخط أبيض غليظ، تعيدني إلى ذاتي؛ فأغلقُ على نفسي الباب، وأبدأ التفكير الأخير، الذي سيقودني إلى الحياة في كل الأحوال: إما إلى الدنيا أو العليا!

اضافة اعلان

أمشي في شوارع العاصمة، أشعرُ أنَّ الناسَ يُحبُّونَ الحياة "إذا ما استطاعوا إليها سبيلا"؛ بل إنهم يتشبثون بها، فهم يصطفّون في طوابير طويلة ومضنية للحصول على الخبز، ويرفهونَ أنفسم، فيقفون بالعشرات أمام بائع المرطبات، ويشربون أكثر من نوع فاكهة في كوب واحد!

لنْ أسردَ أكثر؛ لأنَّ كلَّ فعل يقومُ به الناس، يؤكد لي أنهم مصرون على الحياة، وأنهم إذا لم يجدوا السبيل إليها ابتدعوه؛ وإلا كيف ماتزالُ أسر تتكوَّنُ الواحدة من سبعة أشخاص، تعيشُ على راتب حكومي، وآخر "قليل الدسم" من قطاع خاص متعثر!

كلُّ هؤلاء الناس، الذين يمشون في الشوارع متجهِّمينَ أو مبتسمينَ بلا سبب واضح، أجبروني على التراجع عن التبكير في الصعود إلى الحياة العليا؛ لذلك صرتُ أواظبُ معهم على المشي في شوارع وسط البلد. أركنُ سيارتي، في وضع مخالف، وأمشي بلا غاية، فقط لنتمرَّنَ على النزول إلى الحياة الدنيا!

لكنني لم أستمر طويلاً على هذا الحال؛ كنتُ أقود سيارتي مبتهجاً قبل الوصول إلى أزمة خانقة عند "دوَّار الداخلية". جمهور من الناس يُصوِّبون هواتفهم الخلوية، لتصوير شاب يقفُ أعلى العمارة، التي توقفَ بها البناء منذ أعوام، محاولا الانتحار. السيرُ متعطل، فأوقفتُ سيارتي ونزلتُ وصوَّبتُ هاتفي نحو الحدث، الذي بدا طريفا لكلِّ المارة، إلا لرجال الدفاع المدني والأمن العام، الذين راحوا يتحايلونَ على الشاب، ويعدِّدون له سبل الحياة حتى اقتنعَ، ليتمَّ اقتياده إلى مركز الأمن، للوقوف على الأسباب التي جعلت حياته خالية مما "يستحق الحياة"!

أعدتُ مشاهدة الحادثة في البيت عدَّة مرات. في البداية شعرتُ ببعض الشك تجاه اختياري الحياة الدنيا، مغتبطا بالمشي مع الناس - المتجهمين أو المبتسمين بلا سبب واضح- لكنني على الفور استعدتُ إيماني، وفنَّدتُ كلَّ المبرِّرات التي قد تدفعني إلى الانتحار!

أقنعتُ نفسي في حواري الذاتي، أنَّ الأمورَ ليست بذلك السوء؛ الأوضاعُ الاقتصادية جيدة جداً، طالما أستطيعُ في أسوأ الأحوال، تناولَ وجبتين على الأقل، وبكلفة وجبة العشاء، يمكنني شراء السجائر، وكوب قهوة سائلة!

الأحوال العاطفية لا تستدعي القلق؛ والحبُّ بالأصل "بعض من تخيلنا"، يمكنني ابتكاره، من دون الإصغاء إلى تحريض كاظم الساهر، وهو يغني بلا اكتراث:"ما همَّني إنْ خرجتُ من الحب حياً، وما همَّني إنْ خرجتُ قتيلا"!

كلُّ شيء على ما يرام؛ الحروب التي حولنا "عرس عند الجيران"، لستُ معنياً بها كثيراً. المهمُّ أن تكون أحوالنا "تمام"، وهي كذلك لولا بعض "الحروب الصغيرة" بين المعارضة، التي يزيدُ عددها بمقدار ما تنقص، والحكومة التي يظلُّ عددها ثابتاً، ولا يتغير إلا عدد محدود ممَّن يدخلون إليها.. من المعارضة!

مشيتُ في وسط البلد؛ راقبتُ مشاهد الحياة: طابور الخبز استطال أكثر، وزاد المتجمهرونَ أمام بائع المرطبات. مشيتُ أكثر حتى نسيتُ نفسي، ووصلتُ "دوار الداخلية"، ووجدتني أصعدُ "عمارة الانتحار" بلا تخطيط مسبق. وقفْتُ أعلى سور سطحها واستنجدتُ بالناس - في الحقيقة لم أكن جاداً في قرار الموت- أشهروا هواتفهم الخلوية، وبثَّ خبر سريع عني على وكالة الأنباء الأردنية، الملاصق مبناها للعمارة، وأتى رجال الدفاع المدني، وتأخرَ قليلا وصول الأمن العام. أنا على مشارف الحياة العليا، حتى وإنْ كنت أنوي، غير صادق، السقوط من أعلى العمارة. أرادوا أن يثنوني، سألوني: "ماذا تريد؟!". أجبتُ بلا تردد:"أن أعيش".

نزلتُ مع الشرطة، ولما سألوني السؤال المعتاد، رحتُ أعدُّ لهم سبل الحياة!

[email protected]