الطفيلة: عندما نخطئ في العنوان!

لم ينته الحراك الأعلى سقفاً في الطفيلة مع سلسلة الاعتقالات التي حدثت، حتى لو تجاوزت العدد الحالي. فالقصة، بالتأكيد، ليست مرتبطة بعشرين أو ثلاثين شخصا (فقط) هم من يقفون وراء هذا السقف المرتفع هناك، وفقاً للقناعة لدى دوائر القرار التي توارت وراء اللجوء إلى هذا "الحل"؛ الاعتقالات والمحاكم.اضافة اعلان
من استمع إلى والدتي المعتقلين سائد العوران ومجدي القبالين، يدرك تماماً أنّ القصة ليست "أشخاصاً" خرجوا عن الطوق، بل هي "مزاج" جديد أو ميدان مختلف عن السابق، وهو ما لم تنفع معه الأساليب القديمة بدعوى استعادة هيبة الدولة ومنع التطاول على الخطوط الحمراء. بالطبع، الأغلبية الساحقة من الأردنيين مع الإصلاح الجوهري بوصفه سقف المطالب، لكن لم تخرج بعض الشعارات أو الخطابات في المسيرات الأخيرة في الطفيلة أو حيّها في عمان عن هذا الخط، إلاّ بعد أن جرّبت "الدولة" الأساليب الخاطئة كافّة معهم، من إنكار الحراك، إلى الحديث عن "محرّكين" غاضبين والزج بعدد من أبناء المحافظة إلى مؤسسات القرار، أو محاولة إنهائه بالوسائل كافة، وصولاً إلى الاعتقالات، ما خلق قناعة لدى الناس بأنّ المطلوب ليس الإصلاح الحقيقي، بل الاحتواء وشراء الوقت!
المزاج السياسي في الطفيلة يختزل النتائج السلبية لفشل السياسات السابقة (التهميش السياسي لأبناء المحافظات، الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، البطالة والفقر، الإحباط وخيبة الأمل..)، فالحراك ليس معزولاً عن سياقه الاجتماعي، وهي حالة تقع فيها الطفيلة على أعلى السُلّم البياني للمزاج الشعبي المحتقن، لكن المحافظات الأخرى موجودة بدرجات متفاوتة على السلّم نفسه.
صحيح أنّ من يقود الحراك مجموعة شباب، لكن لديهم "أرضا خصبة"، وهم ليسوا ضد الدولة أو عبثيين (حتى مع تجاوز خطابهم السقوف المعروفة)، فرياح الربيع العربي تهب على المنطقة بأسرها، وترفع من وتيرة الخطاب، وهي حالة جديدة تتطلب وعياً رسمياً أكثر عمقاً. وأشير هنا إلى كتاب
د. مارك لينش الجديد (من أبرز الباحثين الأميركيين في شؤون المنطقة) عن التمرد العربي، بعنوان "ثورة غير منتهية في الشرق الأوسط الجديد" (صدر قبل أيام قليلة في واشنطن). إذ يمثّل أحد أكثر الكتب عمقاً وفهماً لطبيعة التحولات الجارية، والتي تدخل إلى نطاق تشكل وعي وميدان ومزاج شعبي جديد في العالم العربي اليوم. أمّا الجانب الآخر من الصورة، الذي لا يراه المسؤولون أو يتجاهلونه، فهو أنّنا أمام شباب يريدون الإصلاح والدخول في مرحلة جديدة في العلاقة مع الدولة، مغايرة للنمط التقليدي- الريعي والزبوني، بعد أن انتهت المعادلة السابقة اقتصاديا وسياسيا، ولم تعد تخدم لا النظام السياسي ولا المجتمع، وتحديدا الشرق أردنيين الذين شكلوا ركيزة أساسية في تلك المرحلة.
عندما نخطئ في العنوان نضل الطريق.
إذ إنّ السياسيين فشلوا في بناء رسالة جديدة للدولة، وشرح ما يحدث للرأي العام، وتقديم تصورهم للمرحلة المقبلة. بدلاً من ذلك، عانت هذه الرسالة السياسية والإعلامية من الغموض والالتباس والتناقض في أحيان كثيرة، ما عزّز القناعة لدى مزاج شعبي سياسي، حتى إن كانت هذه القناعة غير دقيقة، بأن سلوك الدولة ملتو مراوغ في التعامل مع "استحقاقات المرحلة الجديدة". الاعتقالات لن تخفي عجز "النخبة السياسية الرسمية" عن بناء جسور الاتصال والحوار المعمّق مع القوى الجديدة، والوصول معها إلى تفاهمات حول خطوات الوصول إلى أهداف الإصلاح. ولو كان هنالك حوار حقيقي لترسيم هذه الرؤية المشتركة، فإنني أجزم أنّ الأمور لم تكن لتصل إلى هذا المستوى، أو ما هو أخطر منه لاحقاً!

[email protected]