الطّفولة في خطر

 

انتهى العام 2009، ولم ينتهِ أثر الصّاعقة التي دكّت رأسي، من جرّاء ذلك الخبر المفزع الذي نشرته الصّحف الأردنية مؤخّراً، والذي جاء فيه أنّ رجلاً سلّم طفليه البالغين من العمر ست سنوات وثماني سنوات إلى أحد مراكز حماية الأسرة، وكان يهتف والدّموع تتصبّب من عينيه: "إنني أتبرّع بهما للدولة، للتتكفّل برعايتهما، فأنا لا أستطيع القيام بذلك"!

اضافة اعلان

لقد بقي ذلك الخبر يلاحقني ويهزّني من أعماقي، وممّا زاد الطّين بلّة أنّ أحداً لم يحرّك ساكناً حيال نشر الخبر! فلم نشهد هناك من مؤسّسة أو جمعية تتداعى إلى دراسته، والتنبيه إليه بوصفه أنموذجاً صادماً للطّفولة المعذّبة، ولظاهرة مسكوت عنها في مجتمعنا، ويجري التعبير عنها لأوّل مرّة بهذا الوضوح الجارح! ثمّة ناقوس خطر يدقّ إذن، وهذه إشارة حمراء لا بدّ من التقاطها، والتقاطها بقوّة.

لم يلتقط أحد تلك الإشارة، وهذا بحد ذاته كان مؤشّراً خطيراً على عطب ما في الجهاز العصبي المجتمعي! فنحن لا نعرف عمّا يمكن أن يخبّئه المجهول من أحداث أكثر فداحةً تتعلّق بهذه الشريحة العظيمة، حيث يشكّل الأطفال قرابة نصف عدد السّكّان في الأردن. 

طبعاً إذا ما بحثنا عن الأسباب الكامنة التي تقف وراء هذه التصرّفات، فسنجد أنّ الفقر هو المسبب الرئيس في حالات عديدة، وهذا ما صرّح به الرّجل الذي قال متسائلاً: "هل يُعقَل أنني لا أستطيع إرسالهما إلى المدرسة كباقي أقرانهم"؟ غير أنّ الفقر ليس سوى عنصر واحد في سلسلة طويلة من العناصر التي تشوّه لوحة الطّفولة، فتلك اللوحة لا بدّ لها من وجود منظومة متكاملة من القوانين والتّشريعات التي تحميها.

لنعترف جميعاً ومنذ البداية أنّ الأطفال لدينا يعيشون وضعاً قلقاً، فهم لا يتمتّعون إلا بالحدود الدنيا من الحماية، كما أنّهم في الوقت نفسه دون امتيازات تُذكَر، فالأطفال عندنا ليس لهم تأمين صحّي حقيقي، والأدوية التي تخصّهم، مثلها مثل الحليب والغذاء غالية الثمن، وهذه كلّها تخضع للنّظام الضريبي الذي يزيد أسعارها باستمرار. ألعاب الأطفال وكتبهم هي الأخرى ذات سعر مرتفع، أمّا المدارس فهي شبيهة بالمعتقلات، إنّها خاوية على عروشها ولا يوجد فيها ما يبعث على المرح! الطالب مطلوب منه أن يتسمّر في مقعده لأربع ساعات، وإذا ما تحرّك أو تكلّم فالعقاب في انتظاره.

وكما أنّ الذهاب إلى المدرسة مشكلة بالنسبة إلى الأطفال، فالمكوث في البيت مشكلة ـ أنا هنا أتحدّث عن الأطفال الذين ينحدرون من أحياء فقيرة ويشكّلون الغالبية العظمى من الأطفال في المجتمع ـ وبما أنّ البيوت لا تتّسع لهم فغالباً ما يقوم الأهل بدفعهم إلى اللعب في الشوارع! وفي الشوارع يبدأ هناك فصل جديد آخر من العبث والتّمرّد. من خلال نصف ساعة يقضيها الطفل في الشارع تكون الساعات الأربع التي قضاها في المدرسة قد ذهبت بكل ما فيها من تعاليم أدراج الرياح!

في الشارع ثمّة سيكولوجيا مضادّة تتشكّل لدى الطفل، وسلوك عدواني يتمّ تغذيته، وما ظاهرة أطفال الشوارع المشرّدين سوى تعبير عن (ثقافة) الشارع التي يتلقّاها الطفل على أيدي رفاق السّوء المنتشرين من دون أيّ رقيب. بالمقابل لو كان هناك متنزّهات أو أماكن أخرى للتّرفيه لكان الأمر في صالح الطفل.

لقد جاءت قصّة الطفلين اللذين أودعهما والدهما مركز حماية الأسرة في الكرك لترجّ بقوّة بركة حياتنا السّاكنة، ولتؤشّر على مزيد من الخطورة التي تتهدّدنا، ولتقول لنا بصوت عالٍ إنّ الطّفولة في خطر.

[email protected]