العالم الإسلامي تحرر فعلاً.. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى

ولي العهد الإيراني عباس ميرزا، 1820 – (أرشيفية)
ولي العهد الإيراني عباس ميرزا، 1820 – (أرشيفية)

كرستوفر دي بيلايج *– (ذا سبيكتيتور) 25/2/2017

 ترجمة: علاء الدين أبو زينة

أنا معتاد تماماً على الناس الذين يحاولون إخفاء ضحكاتهم عندما يسمعون أنني كتبت لتوي كتاباً بعنوان "التنوير الإسلامي". ويقول هؤلاء المهرجون المفيدون حقاً أنهم يتوقعون أن يكون هذا شيئاً على غرار كتاب "فطنة وحكمة سبيرو أغنيو"، الذي وُصف بأنه يجمع كل الأقوال العظيمة التي يمكن تذكرها عن نائب الرئيس الأميركي الأسبق، والذي احتوى على صفحات فارغة فقط.اضافة اعلان
وهكذا، فإن عنوان "التنوير الإسلامي" جيد للضحك. لكننا على دراية جميعاً بالأطروحات الخطيرة التي تكمن وراء الدعابات؛ أن الإسلام لم يمر أبداً بأي تنوير، ولا إصلاح، ولا أي من الطقوس الأخرى التي قادت إلى الحداثة التي لدينا؛ وبالتالي، فإن المسلمين والحداثة غرباء عن بعضهما بعضا. وليس غرباء فقط، وإنما أعداء: فمنذ أحدث غوتنبيرغ ثورة في الطباعة الجماهيرية في أربعينيات القرن الخامس عشر، والتي دفعت الغرب إلى العصر الحديث، رفض المسلمون الابتكار بشدة. وللإنصاف، عندما تأخذ في الحسبان حقيقة أن الأمر استغرق نحو 400 سنة قبل أن تدخل طباعة صف الحروف حيز الاستخدام العام في الشرق الأوسط، وأن السلطات العثمانية كانت تعاقب طباعة الكتب خلال الكثير من هذه الفترة بالإعدام، فهل يكون من الغريب أن تكون هذه النظرة الكئيبة لقابلية المسلمين للتحسن قد كسبت القبول الواسع والشرعية اللذين تتمتع بهما حالياً؟
في الحقيقة، نادراً ما كان هناك وقت أفضل من الآن لاستنطاق هذا الاعتقاد –واسع الانتشار في بيت ترامب الأبيض، وفي أوساط شعبويي أوروبا الصاعدين، وفي الكرملين- والذي يقوم على فكرة أن المجتمع الإسلامي غير قادر على الإصلاح لأنه يكره التقدم. ألن يكون غريباً إذا تم الاستشهاد بالدليل التاريخي على أن أراضي الإسلام المركزية والأكثر تأثيراً، احتضنت خلال فترات طويلة من تاريخها، بعد أن واجهت الحداثة الغربية الدينامية، تلك الحداثة بأفضل طريقة ممكنة، وأنها تراجعت إلى التعنت الإسلاموي بعد أن قضت الحرب العالمية الأولى على الليبراليين جسدياً وحاول الحلفاء إخضاعهم سياسياً؟ لكن هذا هو ما حدث في الحقيقة لتركيا ومصر وإيران خلال القرن التاسع عشر "الطويل" حتى العام 1914.
كان أحد العناصر الرئيسية للتحديث الإسلامي (في حالة مصر فقط حتى الغزو البريطاني في العام 1882) هو أن الأراضي المعنية تصرفت ككيانات حرة ومستقلة. ولم يكن التغيير مدفوعاً فقط بالحكام الأتوقراطيين الملَكيين مثل ولي العهد الإيراني عباس ميرزا، الذي قام بإصلاح الجيش الفارسي خلال الحروب النابليونية، وإنما أيضاً بالناس العاديين من ذوي الرؤية، مثل الإداري والمفكر المصري رفاعة الطهطاوي، الذي استوعب فهمه للتطور استخدام البواخر، وتعليم البنات والإصلاح اللغوي. وثمة رؤيوي علماني آخر هو إبراهيم شناسي، والد الصحافة التركية، الذي أمطر الحكومة العثمانية في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر بالنصائح الجريئة حول كيفية التعامل مع الوحدويين اليونانيين، وصب سخريته على الرجعيين الذين عارضوا استخدام أضواء الغاز في اسطنبول (نفس الابتكار الذي قوبل بنفس رد الفعل في زمن لندن الجورجية).
كان المجتمع الإسلامي عشية الغزو النابليوني لمصر في العام 1798 منتمياً إلى العصور الوسطى في الحقيقة بعدة طرق. وكان الذي أدام تخلفه هو الحكم الاستبدادي، والأمية شبه المطلقة واحتكار رجال الدين للمعرفة. والآن جاء التغيير على عجل. فقد وصل التلغراف، والخدمات البريدية وآداب المائدة في وقت واحد تقريباً، وأعقبتها بعد وقت قصير أولى الدعوات المهذبة لرأس السلطة المتوج إلى تقاسم السلطة. وألغت مسارح التشريح الأوامر الدينية الصارمة ضد تقطيع الجثث، وكانت هناك زيادة في الشك الديني؛ وهناك صورة لمدرسة طبية في اسطنبول تم التقاطها حول أواسط القرن، والتي تعرض مجموعة من الأطباء يقفون بالطرابيش وسط تشكيلات مرعبة من الرفات البشرية. وبالنسبة للطاعون والأوبئة، فعل الحجر الصحي والنظافة ضد هذا القاتل الجماعي ما كانا قد فعلاه سابقاً في أوروبا قبل قرنين، بينما جرى تحدي العبودية لأول مرة بفرض حظر على تجارة الرقيق نفسها (وهو ما أصر عليه المتعصبون المبتدئون من البريطانيون)، ثم دينت العبودية في النهاية بتراجع الحريم، المسكن المشترك للخصيان والجواري.
كان التكامل المتزايد بين الجنسين وتراجع تعدد الزوجات في أوساط الطبقة الوسطى الجديدة مظهرين من مظاهر تحرر أوسع للإناث. وبعد أن بدأن القرن كأملاك منقولة لرجالهن، تم تجهيز عدد متزايد من النساء بحلول الحرب العالمية الأولى في كل من القاهرة وإسطنبول وطهران للمساهمة في الحياة الوطنية الناشئة. وكتبت النساء للمجلات النسائية، وتولين قيادة الحملات الإنسانية –وبما أثار استياء المتشددين، تخلصن من طبقة تلو الطبقة من الملابس التي تشكل غطاء العفة الإسلامي.
في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، أعلنت زينب فواز، وهي نسوية مصرية، أنه ليس هناك شيء في قانون الشريعة الإسلامية يمنع المرأة من "المشاركة في مهن الرجال". حدث هذا في بلد حيث تعثرت قبل عقود قليلة فقط جهود لتأسيس مدرسة للقبالة، بسبب العداء الشعبي للفكرة، وترتب على ذلك شغل المدرسة بالحبشيات اللواتي تم شراؤهن من سوق العبيد في القاهرة.
أما حقيقة أن لحظة الإسلام الليبرالية ترنحت وانتهت إلى التوقف في العام 1914، فمأساة غير معروفة كثيراً. في العقد الأول من القرن العشرين، كان الديمقراطيون الإيرانيون والأتراك قد أطلقوا ثورات لتأسيس أنظمة برلمانية، والتي حدَّت من سلطات الحاكم –أحبط الاحتلال البريطاني حركة مماثلة لصالح السيادة الشعبية في مصر قبل عقدين من ذلك. لكن الحرب ألقت بمخلفاتها في المنطقة، واقتطع البريطانيون والفرنسيون الكثير من أجزاء الإمبراطورية العثمانية السابقة وحولوها إلى أجزاء بحجم ولايات للانتداب. وظلت مصر تحت الإشراف البريطاني، في حين تم حفظ السلطات في إيران وتركيا في مأمن فقط على يد أنظمة جديدة اعتنقت النموذج الغربي بشراسة على أساس مواصفات رومانية (كان موسوليني هو النموذج المعتمد) وليس النموذج الجفرسوني.
أحد الأسباب التي حالت دون التمكن من إعادة إحياء حركة الإسلام الليبرالية أبداً كان ارتباطها بغرب ليبرالي مفرط في الدنيوية، والذي تصرف في الحقيقة بكل طريقة سوى التصرف بشكل ليبرالي؛ وغذى هذا الخلط بين الرسالة والرسول صعود جماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية اللاحقة، في حين أن المدافعين عن اعتناق محسوب للتغريب، مثل رئيس الوزراء الإيراني العلماني محمد مصدق، كوفئوا على استقلالهم السياسي بعداء الغرب. (في العام 1951، قام مصدق بتأميم صناعة النفط الإيرانية التي يديرها البريطانيون؛ وقامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز (م-16) البريطاني بإسقاطه في انقلاب بعد سنتين من ذلك).
الآن، وسط بهيمية "داعش" ورفاقه في الركب، وميل عدد متزايد من الغربيين-لا إلى شيطنة الإسلاموية أو الإرهابيين، وإنما شيطنة الإسلام كله ببساطة، أصبح من الضروري استذكار ذلك القرن الآمل، عندما انخرطت ديار الإسلام بحماسة مع الحداثة على أمل استعادة شيء منها –بدا الأمر لفترة وجيزة، في الحقيقة، كما لو أن بالإمكان استعادتها خلال الربيع العربي. أما البديل، فهو تكريس الإجماع الخادم للذات، الذي يوحد "داعش" مع الشعبويين لدينا في الغرب: قصة الصراع والاغتراب الحتميين بين الحداثة والإسلام، القائمة على مغالطة تاريخية.

*(ولد عام 1971 في لندن) هو صحفي عمل في الشرق الأوسط وجنوب آسيا منذ عام 1994.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
 The Islamic world did liberalise – but then came the first world war