العالم العربي بعد ربع قرن

شهد العالم العربي تحولات جذرية خلال العقد الماضي اضعاف ما شهده طوال عقود الركود في دولة ما بعد الاستقلال، وشهد تغييرات سريعة وحادة في عام واحد يشارف على الانتهاء ربما أكثر مما شهده خلال قرن بأكمله من احتلالات واستقلال وحروب وتوتر، وبينما عبرت الجماهير والنخب موجة من التفاؤل والشعور بأن التاريخ قد عاد مرة أخرى لهذا الجزء من العالم، تسود اليوم حالة من الارباك الفكري والقلق والمشاعر المتناقضة في تقدير الموقف والمصير.
 حالة من عدم اليقين حول مصير التحولات السريعة والمدهشة التي شهدها العالم العربي وما يزال يخوض غمارها، تطرح السؤال حول امكانية رسم سيناريوهات لمصير الاوضاع في العالم العربي بعد ربع قرن من اليوم.
 المفارقة التي تبدو واضحة اليوم ان خبرات وادوات الانتقال السياسي التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين غير صالحة لاستخدامها في الحالة العربية، فلا يمكن مقارنة مصائر الثورات العربية وما ستأتي به التحولات السريعة وحتى صناديق الاقتراع بما حدث في اروبا الشرقية، ولا في اميركا اللاتينية ولا حتى في الهند وماليزيا، وذلك لمحددات موضوعية صرفة أهمها علاقة الداخل العربي بالخارج ومحددات الموقع والجغرافيا السياسية التي تجعل من مسار الانتقال العربي مسألة  قابلة للتدويل كما شهدنا ذلك في العراق ونشهده في ليبيا وما سنشهده ربما في سورية، ثم علاقة المجتمعات العربية بالدين وعدم حسم القضايا والقيم الكبرى التي يشتبك فيها الديني بالثقافي والسياسي، واخيرا التناقض والتفاوت الهائل في مسائل التمكين الاقتصادي ونوعية الحياة والحقوق التنموية.
لم تدم موجة التفاؤل التاريخي التي بشرت بها الثورات في تونس والى حد ما في مصر، بل عادت الجماعات الاستراتيجية الناقدة في العالم العربي الى فرملة هذا التفاؤل في اجواء ما تؤول اليه الاحداث في ليبيا وفي اليمن وسورية، والى حد ما تأتي به صناديق الاقتراع وفق بعض التصورات. ويتضح ذلك من تطور تقدير الموقف لدى محمد حسنين هيكل على سبيل المثال وغيره مما ساهموا في التأسيس الى موجة التفاؤل التاريخي على مدى الشهور الاولى حول مسار الربيع العربي ثم عادوا الى مراجعة مواقفهم وتقديرهم لما يحدث.
 هناك هاجسان يسيطران على تفكير الجماعات الاستراتيجية العربية التي طالما مثلت الطليعة الفكرية التي نقدت استمرار الوضع القائم والاستقرار والركود التاريخي السلبي؛  الهاجس الاول يبدو في تدويل العالم العربي نتيجة ركوب الغرب لموجة التحولات العربية والرغبة الواضحة في تحويل الثورات الى جسر لاعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب، والمتمثل في منع انتقال القوة السياسية والاقتصادية من شمال العالم الى جنوبه، وبالتالي انقاذ الاقتصادات الغربية المأزومة والتي تعاني من ازمات مركبة ومعقدة. هذا الهاجس يقود الى سيناريو استدامة الوصاية الدولية والفوضى المحلية التي تنسحب على الصراعات المحلية والحروب الاهلية.
 الهاجس الثاني والمتداخل مع الاول وفق هذا الاتجاه يبدو في سيناريو الدولة الدينية المغلقة والذي يرتبط بمحددات محلية يعاد تأطيرها سياسيا واجتماعيا وتصل الى تصور شرق اوسط بعد ربع قرن من اليوم يعج بالدول والامارات الدينية، على رأسها اسرائيل التي تسير منذ عقدين في مسار واضح نحو الدولة الدينية اليهودية بعد ان شهدت حالات طلاق متعددة الاوجه مع فكر ومنطلقات الآباء المؤسسين لعلمانية الدولة، كذلك الامر في استقرار الدولة الدينية في ايران وازديادها قوة عكس ما يشاع بين وقت وآخر، فيما افرز المسار الذي سلكه الغرب في العراق دولة دينية اخرى مرشحة للانقسام على اسس دينية، وهو الامر الذي تسير اليه كل من ليبيا وتونس ومصر واليمن وربما سورية.
 المشكلة الكبرى تبدو حينما تتحول النظرية التفسيرية الى خطة وسيناريو استراتيجي، ومع ان هاجس التدويل والهيمنة وارد الى جانب هاجس الدولة الدينية، فإنهما يطرحان مسارات اخرى اهمها المزيد من الانكشاف نحو الحسم التاريخي في المسألتين، بينما يبقى التحدي الاكبر والاكثر قلقا امام استكمال الانتقال السياسي والاجتماعي العربي خلال ربع القرن القادم والذي قليلا ما يتم الالتفات اليه وتقدير اهميته، في التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الذي ربما يشكل الحاضنة الدافئة لكل تلك الهواجس.

اضافة اعلان

[email protected]