العالم كما يجب أن نراه

في مطلع القرن العشرين، كان الجدل يملأ أروقة الاتحاد الوطني للمدرسين السويديين، فالمؤشرات كلها تدل على جيل مفصول عن المكان الذي ينتمي له ولا يعنيه الزمن، إنه جيل يكره الجغرافيا والتاريخ ولا تعنيه فصولها، ويرى أنها حصص عبثية والدليل أنه لا يأبه بساعاتها الدراسية.اضافة اعلان
بالنتيجة، وبما أن النقاش العلمي يفضي للاعتراف بالخلل، أقر الجميع بأن بلادهم لا ينقصها الجمال الطبيعي ولا يعوزها تراكم حضاري إنساني وإنما هناك فشل في تقديم روايتهم لذاتهم، فإذا كانت قصتنا مختلة بالزمان والمكان، فبلا شك نحن ننتج سردية لشخوص عبثيين، وعلينا إعادة بناء أركان رواية وطننا لأبنائنا، وهو ما سينعكس على بنائهم لذاتهم، إنه أمر مشابه للقصة المعروفة حول الطفل الذي أعطي خريطة مبعثرة للعالم ليعيد ترتيبها وفعل ذلك بسرعة كبيرة لأنه وجد صورة إنسان على الوجه الآخر، فقرر جمع قطع الإنسان، فانتظم الوجهان؛ صورة العالم وصورة الإنسان باللحظة نفسها.
ويبدو أن السويديين أول من أدرك هذه الفكرة، فوقع اختيار إنجاز المهمة على الرائعة (سلمى لاغرلوف) القادمة من رحم الثورة الرومنطيقية التي تسيدت هي المبشرين بها في بلادها بعد روايتها (ملحمة غوستا برلنغ) في العقد الأخير للقرن التاسع عشر، وفيها يميل السرد إلى تمجيد العواطف مع خلط الأساطير والحكايات الشعبية، تلك الرواية التي سيحولها رائد السينما السويدية (مريتس ستيلر) إلى عمل سينمائي يحقق العالمية من خلاله (1923) إبان السينما الصامتة. وبالعودة الى أروقة المدارس وصناعة المناهج، أقر المسؤولون بأن التيار الرومانسي هو الوحيد القادر على إذابة كل بؤس الواقعية وجمود الكلاسيكية، وبكل مرونة بإمكانه القفز عن العقلانية في هكذا نمط من المواد، لذا كان أصحاب المدرسة الرومنطيقية الخيار الوحيد القادر على نفخ الروح في المناهج الميتة سريريا بعد أن نجح التيار ذاته في احتواء كل جنون تيارات أوروبا بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي سياق بناء المنهاج ذي المعادلة الصعبة، ليس أجمل من تلك الفتاة القروية التي تقطن على حافة الدولة عند الحدود مع النرويج والتي أصيبت بالشلل في طفولتها وناضلت لتعلم نفسها وتصبح معلمة وكاتبة وأديبة، فأرسلوا لها خطابا كان مضمونه: «نحن بحاجة الى كتاب مدرسي يثير اهتمام الطلاب بجغرافية بلادهم ليعرفوها فيحببهم بها، لذا فالكاتب يجب ألا يكون فقط ملما بالجغرافيا بل بالأساطير والتاريخ كذلك».
إنها عملية فهم لكينونتنا، فالإنسان تفوق على باقي المخلوقات بامتلاكه بعدا ثالثا، فالحيوانات تملك الطول والعرض ونحن نزيد عليها بالارتفاع ولحظة إدراكنا بعد الزمن الرابع حدثت ثورتنا الحضارية الكبرى، ببساطة علينا أن نحيط بأبعادنا لنعي ما نريد، هذا ملخص الفكرة، ومن هنا قدمت (لاغرلوف) أسطورتها (رحلة نيلز هولغرسونز عبر السويد) التي تعرف لأبناء جيلنا من خلال فيلم الإنيمي (نيلز)، وهو ذلك الفتى الشقي الذي يشاكس كل ما حوله حتى بات مكروها من الجميع، فيعاقب بتعويذة تجعله قزما، وبعدها تبدأ رحلته الطويلة مع سرب من الإوز حول قرى وبلدات السويد ضمن أحداث تصقل شخصيته وتحوله الى إنسان يملك صفات النبل والشهامة والنضج، فتمر الجغرافيا على هامش تعديل السلوك ويهضم التاريخ ضمن مقبلات المعرفة.
إننا أمام تحفة ستحوز صاحبتها على جائزة نوبل للآداب بعد إتمام نحتها لعملها في العام 1909. إنه عمل أحاط الفكرة التي تنص على أن التاريخ زمان سائل والجغرافيا زمان صلب، فقدمتهما في قالب قابل للقراءة بعيون طفل، وهذه غاية التعليم العظمى، وهي ببساطة أن ننجح برؤية العالم بعيون طفل.