العرب بعد الاتفاق

اعتبار الاتفاق النووي مع إيران صفقة شاملة وعلى حساب العرب، هو أمر ليس دقيقا. وهو ليس نصرا سياسيا للملالي؛  فقد رضخوا لمطالب "الشيطان الأكبر"، وقبلوا بإخضاع برنامجهم النووي للرقابة والتقييد الدقيقين. لكن الاتفاق، بالتأكيد، هو لمصلحة الشعب الإيراني؛ بإنهاء الحصار الاقتصادي، وتطبيع العلاقات مع العالم، واستعادة الأموال الضخمة المجمدة، والخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، وربما تعزيز تيار الاعتدال والعقلانية وتراجع سلطة الملالي والتشدد الديني.اضافة اعلان
لكن، هل العقلانية والاعتدال سينسحبان على سياسة إيران الإقليمية، وعلاقتها مع جيرانها العرب؟ هنا الأمور أقل وضوحا. وتصريحات خامنئي رديئة، وما تزال مليئة بالمناكفة والتحدي. وهناك أساس مشروع للمخاوف من أن الاتفاق سيعني بالنسبة لإيران إطلاق يدها في المنطقة، والطمع بمزيد من النفوذ وتصعيد العداء للسعودية، والانتشاء بالقوة الاقتصادية والسياسية، وتحويل ما كان ينفق على الآلة النووية إلى الآلة العسكرية التقليدية و"فيلق القدس" والدعم المباشر للحلفاء في سورية والعراق واليمن.
لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الخيار الخاص بالتيار الأيديولوجي المتشدد في إيران هو الذي سيسود هناك. فالدفع الذي أعطاه الاتفاق لمنطق التوافق والتسويات قد ينسحب على السياسات الإقليمية في المنطقة، ويكون هو الخيار المفضل لدى معسكر الاعتدال في إيران، الذي لا يرى مصلحة له في الشحن والتحشيد وتأجيج الصراع المذهبي ومنطق تصدير الثورة واستعداء الجيران. ولا أعتقد أن هناك أساسا للمقولة التي ترى أن الغرب والولايات المتحدة قد باعا العرب بهذا الاتفاق، وذهبا إلى سياسة براغماتية للتعامل مع القوي في المنطقة وتلبية مطامحه الإقليمية مقابل التخلي عن المشروع النووي؛ فما يزال كل شيء قيد التجاذب، بما في ذلك تطبيق الاتفاق نفسه.
ووفق النهج الإيراني في المناورة واعتصار المكاسب في كل لحظة، سوف تشهد كل خطوة يسيرها المفتشون في الممرات إلى المواقع النووية، تعطيلا ومراوغة وابتزازا، وفي الخلفية كل موضوع آخر في العلاقة بين الجانبين. وسيكون الأمر متعبا للطرف الآخر. وبالطبع، لن يكون هناك اتفاق حول أي شيء في المنطقة سوى التوجه العام للبحث عن التفاهم والتسويات.
هنا سيعتمد اتجاه الأحداث كثيرا على العرب أنفسهم. إن الاتفاق النووي يمكن أن يكون فرصة لفرض توجه جديد على إيران، وبمساندة من الغرب، نحو تسويات عقلانية على مختلف الجبهات. وهذا يتطلب أمرين: وحدة وصلابة وتماسكا في الموقف العربي والتحدث بصوت واحد وكفريق واحد، بما في ذلك ظهور القوة العسكرية المشتركة في الميدان؛ ومن جهة أخرى الإقلاع عن الشكوك والمخاوف والارتباك والنفور المذهبي ضيق الأفق، والذهاب إلى إيران مباشرة بانفتاح واستعداد للتفاهم على الملفات، وأخذ الأمر الواقع للنفوذ الإيراني والمصالح الإيرانية بعين الاعتبار، وعلى قاعدة أن "داعش" والإرهاب والتطرف عدو مشترك، تتم مواجهتها بتسوية سياسية بين الطرفين؛ بين السنة والشيعة في العراق على قاعدة التساوي والشراكة المتوازنة في السلطة، وفي سورية التخلي عن بشار الأسد مقابل بقاء النظام طرفا في تسوية سياسية طويلة الأمد. وكذلك الحال في اليمن؛ بقبول الحوثيين طرفا رئيسا في معادلة الحكم. وهذه كلها ليست أمورا سهلة، لكنها في نهاية المطاف هي المخرج للتقاتل الذي يستمر إلى ما شاء الله من دون نصر لأي طرف. والاتفاق النووي نفسه يمكن أن يكون نموذجا للقدرة على اجتراح الحل، حين تكون البدائل الأخرى كلها خسارة للجميع.