العرب وعصر نهاية العمل

في العام 1995، نشر عالم الاقتصاد الشهير جيرمي ريفكين، كتابه الذي شكل صدمة للعالم في ذلك الوقت، هو "نهاية العمل"، أشار فيه إلى أن التقنية الجديدة والعولمة وتحولات الاقتصاد وتنامي دور مجتمعات المعرفة، سوف تقود إلى انقراض المهن، مطلقا على ذلك "حقبة ما بعد السوق". واليوم، تنشط مراكز البحوث ومواقع التوظيف والمهن بإعداد قوائم سنوية للمهن والوظائف المهددة بالانقراض. في المقابل، تم تطوير معايير جديدة للنجاح، تختلف أحيانا عن المعايير التقليدية. ووفر التطور التكنولوجي واقتصاد المعرفة مهناً جديدة، لكنها ذات طاقة استيعابية محدودة، وتحتاج مؤهلات نوعية.اضافة اعلان
المجتمعات العربية مدعوة قسريا أن تدخل عصر ما بعد السوق؛ أي ما بعد العمل، قبل أن تدخل فعليا عصر العمل التقليدي. وبحسب منظمة العمل العربية، فإن مشكلة البطالة في العالم العربي هي الأسوأ عالمياً؛ إذ إن معدل البطالة هو الأعلى ما بين مناطق العالم، بما في ذلك أفريقيا جنوب الصحراء. حيث يوجد ما يزيد على 20 مليون عربي عاطل عن العمل، وبوجه خاص بين الشباب والإناث. وهذا الرقم في ازدياد مستمر. في المقابل، تذكر تقارير دولية أن الأرصدة الرسمية العربية قاربت، مع نهاية العام 2014، نصف الأرصدة العالمية؛ في حين أن معظم هذه الأرصدة -بل ربما جميعها- ريعية، أي لم يتم تحصيلها نتيجة عمل منتج.
المسألة اليوم تتجاوز مقولات الحسد والغيرة التي سادت في خطابات وثقافة التبرير التي سيقت لمواجهة الدعوة للاستثمار في المستقبل التنموي العربي في عقدي السبعينيات والثمانينيات، فذهبت تلك الثروات من دون أن تسهم في تدشين تنمية مستدامة تغير الحياة في هذه المنطقة، وتعيد تأهيل مكانتها الاقتصادية والسياسية في العالم. اليوم، نحن أمام أشبه ما يكون بدعوة إلى شراكة قسرية في المستقبل، وإلا سيكون مصير المنطقة بأكملها نحو المزيد من التهميش والإفقار والتصحر، كما المزيد من الضياع الاجتماعي والتطرف والانغلاق، بل والانفجار من الداخل، وليس على طريقة "الربيع العربي" هذه المرة.
العمق الاجتماعي للأزمة الاقتصادية التي تُقبل عليها منطقتنا، تجعل الحديث الندي عن الأدوار السياسية أو الأمنيات حول التكامل الاقتصادي العربي، كلاما عتيقا لا قيمة له؛ فهناك مؤشرات على انهيار بنى اقتصادية تقليدية كبيرة، ومؤشرات أخرى عن تحولات عميقة في البنى الاجتماعية-الاقتصادية نتيجة عمليات التهشيم والانسحاب وغياب الإحلال. كل ذلك يعمل في العمق الاجتماعي البعيد، وتحديدا في أوساط الشباب، ووسط الطبقة الوسطى العربية التي تزداد توسعا، بعكس ما تروج بعض التقارير والدراسات، لكنها تزداد أيضا تشوها وتعقيدا، وهنا الخطورة الكبرى، نتيجة حجم الاختلالات التي تورث للأجيال الجديدة؛ هذه الأجيال التي عليها منذ العقد المقبل دفع أثمان عقود من التراكم الزائف، وعليها دفع أثمان الاختلالات الديموغرافية، وأثمان تدمير البيئة، والهجرة القسرية البينية المقبلة، وعلى خلفيات متعددة.
عالم ما بعد العمل التقليدي الذي بدأ العالم يدخله، سيزيد من تعقيد صورة المستقبل لدى الشباب العربي؛ إذ سنكتشف أننا لم نكن متطرفين في تفسيرنا للدين والمعتقدات، ولا في السياسة والأيديولوجيات، فحسب، بل الذي لا يقل خطورة أننا تطرفنا حتى النخاع في الاقتصاد، وربما أكثر من أشياء أخرى.