العزاء يزيد الأحزان والأعباء

مجالس ومراسم العزاء في مجتمعاتنا تحولت إلى عبء نفسي ومالي وجسدي على أهل الميت، وتنشئ أزمات سير، وتغلق الطرق، وتعطل حياة الناس، وتهدر مواردهم وأوقاتهم. كما باتت سلوكا مظهريا فجّا يثقل على مشاعرهم، ويضر بروح الإنسان وجوهره. اضافة اعلان
والأصل أن العزاء هو مواساة وتضامن مع أهل الميت، تريحهم وتخفف عنهم. وهذا يحتاج أن تقتصر المشاركة العامة والجماهيرية على الجنازة، ثم السلام على أهل الميت. وبعد ذلك، يقتصر مجلس العزاء على الأقارب والأصدقاء المقربين، ويكون محدودا بصالون البيت، ويقسم المعزون -المفترض أنهم مرتبطون ببعضهم بعلاقة وثيقة- أوقات حضورهم ومشاركتهم، ويديرون الخدمات الأساسية لأهل الميت؛ الطعام والضيافة (المحدودة والرمزية).
لا يحتاج أهل الميت بعد الدفن سوى عدد محدود من الأصدقاء والأقارب يشاركونهم الحزن. ولا تفيدهم بشيء هذه الجموع من الناس التي تأتي ولا تعرف أهل الميت ولا بيته، ولذلك يحتاج أهل الميت إلى نشر لوحات إرشادية تفسد الشواخص المرورية. ما قيمة المشاركة والتضامن التي يمكن أن يقدمهما شخص لا يعرف أين يقع بيت المتوفى؟ ثم يقيم الناس صالات في وسط الشوارع تغلق الطرق وتعطل المرور وحياة الناس، ويمضون ثلاثة أيام بلياليها على الأقل في عمليات استقبال وتوديع وتقبيل "انتحارية"، تصيبهم بالعدوى وارتجاج المخ! كما تقديم الماء والقهوة والتمور والغداء والعشاء، والناس تتوافد من كل فج عميق، تصافح وتقبل بلا معرفة ولا حكمة أو جوهر حقيقي لحضورها. ويحول المعارف والأقارب والدعاة ومشاريع الصعود السياسي والاجتماعي وهواة، مجلس العزاء إلى ناد للتسلية والحديث والتحليلات السياسية والوعظ والإرشاد، والتطفل والفضول الذي يخترق أهل الميت ويشرّحهم ويحولهم إلى لوحة تلفزيونية مفتوحة على الفضاء والهواء مباشرة!
يحتاج أهل الميت إلى الحزن بصمت وخصوصية. ليس عيبا البكاء على فقدان عزيز؛ هذا الحزن والبكاء يخففان كثيرا من الأعباء والضغوط النفسية، ويرقيان بمشاعرهم، وهم في ذلك يحتاجون إلى خصوصية وعزلة وهدوء؛ لا يحتاجون أن يكون حولهم أو قريبا منهم سوى عدد محدود جدا من الناس المصابين مثلهم. يمكن أن يتحدثوا بهدوء وعفوية معا، ويتذكروا الأيام والأحداث كيفما اتفق، وقد يضحكون ويبكون في وقت واحد، ولا بأس في ذلك؛ فأن يكونوا على سجيتهم وفي حالة استرخاء وهدوء حزين وصامت، يساعدهم على تجاوز المصيبة والتفكير السليم والتخطيط لما بعد الوفاة.
ولكن ما نفعله اليوم في مجالس العزاء ومراسمه أننا نزيد حزن الناس، ونحملهم تكاليف وأعباء مالية مرهقة تزيد في مصيبتهم. وبدلا من أن نخفف عنهم، فإننا نتسلى بهم وبقصصهم وأحوالهم وأخبارهم. مجالس العزاء تتحول إلى واجب كبير على أهل الميت في تسلية الناس والترفيه عنهم!

[email protected]