العشيرة

كنتُ، في الفترة الأخيرة، جزءا من سلسلة نقاشات علمية عن "العشيرة" (في المنطقة والعراق)، ودورها السياسي، وعلاقتها بالدولة (والعراقيون يستعملون تعبير "العشيرة"، تحديدا، فلا يرد في الأدبيات العراقية تعبيرُ "القبيلة" مطلقا).اضافة اعلان
اللافت للنظر أن كثيرين ما تزال تحكمهم "أوهام" عن دور العشيرة في العراق وقدراتها. وهذا لا يشمل باحثين مرموقين فقط، بل -كذلك- فاعلين سياسيين، ورجال دولة. ويترتب عن ذلك سياسات، يكون للعشيرة جزء جوهري فيها. ولذلك (أنتقل، سريعا، إلى الحكم) تكون سياسات فاشلة.
يقول هشام داود، وهو أنثروبولوجي عراقي، وأحد أبرز المتخصصين في أنثروبولوجيا العشائر، إنه توجد في العراق عشائر، ولكن، لا توجد "عشائرية".
لقد عمل نشوء الدولة الحديثة في العراق، ومن ثم، النزعة الدولتية، أي الدولة القوية المسيطرة على سائر التفصيلات الاجتماعية، مستفيدة من سيطرتها على الثروة (الريع)، ومن الثقافة النامية لدى المجتمع بأنه مجرد هامش على الدولة التي هي الناظم المجتمعي الأساسي، والعنصر المركزي في الحراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، أقول: عمل نشوء الدولة الحديثة على تفكيك البنى العشائرية. إذ صادرت الدولة (بحكم تركيبتها الأبوية الراعية) سلطة الشيوخ، ولم تعد لهم أي صلاحيات، ولم يعد الانتماء العشائري يعني شيئا لأفراد العشيرة، أكثرَ من الرابط النَّسَبي.
طبعا، لا أحد يستطيع أن يدعي أن هذا حدث في سياق حداثة سياسية مكتملة؛ فكّكت العلاقات التقليدية، وأوجدت -بدلا منها- انتماءَ المواطنة. كما لا يستطيع أحد أن ينفي أن بنى السلطة، في العراق والمنطقة، ما تزال تستند إلى العصبية (بالمعنى الخلدوني)، سواء كانت قرابةً عائلية (على نحو ما كان الأمر في العراق أيام صدام حسين، وسورية الآن، وليبيا أيام القذافي)، أو انتماءً طائفيا (على نحو ما هي الحال في العراق الآن)، أو حتى عصبية إثنية. وهذه العصبيات أوسع من الانتماء العشائري.
حدث الأمر بسبب الانتقال من السياق العثماني؛ الإمبراطوري اللامركزي (الذي منح صلاحيات "Authorities" لبعض المشايخ، منهم خمسة من شيوخ كبار العشائر والائتلافات العشائرية في العراق، أُطلق عليهم لقب "أمير". و"الأمير"، هنا، ليس لقبا للوجاهة، بل بما يعني من صلاحيات لامركزية فوّضه بها البابُ العالي)، إلى النزعة الدولتية المركزية التي فتّتت البنيةَ العشائرية.
وقد تكون حقبة الاحتلال البريطاني، ما بعد تفكك الدولة العثمانية وقبل بزوغ الدولتية الشديدة، مرحلة انتقالية، حاول فيها البريطانيون ترتيب البنية السياسية والاجتماعية في العراق عبر استعمال منهجي للبنية العشائرية، لا مجال للتفصيل فيه هنا.
هكذا، تحولت العشائرية إلى مجرد الإشارة الى مجموعة بشرية، يربطها (أو هكذا تعتقد) نسبٌ واحد مفترض، من دون أي إمكانية لأن يتحول هذا الارتباطُ إلى ديناميكية سياسية. وقد أدرك الشيوخ المنطقَ الجديد، وأنه لن تكون لهم ثمة قوة إلا من خلال الدولة، كما أن مصدر قوتهم في الحقبة العثمانية أتى من تفويض الدولة، فماذا يعني لابن العشيرة شيخ لا سلطة له، ولا يقدم له أي شيء؟ قال لي جملة من المشايخ، بصراحة شديدة: إن قوة الشيخ تأتي من قربه من الدولة.. مما يوفره له هذا القرب من مساحة تسمح لبعض أبناء عشيرته ببعض مواقع النفوذ.
والدولةُ أدركت هذا المنطق، فبدأت هي بصناعة الشيوخ. وهذا يعني أنه ليس ثمة منطق عشائري داخلي لصناعة المشيخة، بل هو أمر خارجي، تتحكم به الدولة. وأصبحت أجيالُ المشايخ في العراق تدلّ على الحقب السياسية المختلفة؛ فثمة شيوخ صنعهم العثمانيون، وشيوخ صنعهم البريطانيون، وآخرون صنعتهم الحقبةُ الجمهورية، وآخرون صنعهم صدام حسين، وآخرون نوري المالكي، والأميركيون صنعوا شيوخا كذلك، وهكذا.
هذا التحليل يمكن أن يفسر الموقفَ الراهن للعشائر ومشايخها من "داعش" و"الحشد الشعبي"؛ فليس ثمة موقف موحد للعشيرة، بل هناك انقسامات داخل كل عشيرة، وهناك صراع زعامات داخل كل عشيرة، وهناك تنافس على القرب من الدولة. والأفراد لا يتبعون الزعامات إلا إذا وفّروا لهم مصالح، والشيخُ هو الذي يستطيع أن يستجلب مصالحَ من الدولة وريعها لأفراد عشيرته، أو بعضهم. أما شيوخ الجيل السابق، أو الحقبة السياسية السابقة (الذين يقدّمون أنفسَهم، الآن، بوصفهم الشيوخ "الحقيقيين") فقد تجاوزهم التأريخ بكل تأكيد.
هل سمعتم بشيخ واحد من كبرى الائتلافات العشائرية في العراق، رشح لواحدة من الانتخابات النيابية الأخيرة، ولم يستطع أن يحصل على أكثر من مئتي صوت؟!