العلم والدين

د. هاشم غرايبة علّق أحدهم على موضوع يتحدث عن موافقة العلم والعقل للدين قائلا: "لا علاقة للدين بالعلم، بل إن من يؤمن بالعلم لا يؤمن بالدين". إن جميع من لا يؤمنون بالدين وضرورته للحياة البشرية، يتطابقون في سمة واحدة، قوامها عدم فهم الدين: جوهره ومراميه، واعتقادهم أنه مجرد طقوس تعبدية يمارسها الشخص خوفا أو طمعا، كما يشتركون جميعهم بانبهارهم بما حققه البشر من تقدم علمي واختراعات تقنية، معتقدين أنهم قد قاربوا على اكتشاف سر الحياة مما يوهمهم بأن ذلك ينقض وجود الله. الطريف أن هؤلاء موجودون في كل الحقب التاريخية، ومع كل تقدم منذ صنع الإنسان القوس ثم المنجنيق وصولا الى البارود فالصواريخ..في كل مرحلة كانوا يتوهمون أنهم وصلوا الى قمة العلم والمعرفة، وأنهم اقتربوا من الوصول إلى ذلك السر الخفي: كيف تتحول المادة إلى الحيوية. سر استغراق هؤلاء في الجري وراء السراب الخادع، هو عدم فهمهم لمعنى العلم من أصله. العلم من التعلم أي المعرفة المكتسبة بالنقل أو التجريب، لذلك فهو ليس اختراعا بشريا من اللاموجود، بل هو من فهم ما يسمونه الظواهر الطبيعية، أي السنن الكونية بالتسمية الدينية، وهي تلك القوانين التي وجدها الإنسان تنظم علاقات الأشياء وخصائصها مثل الجاذبية والمغناطيسية والإحتكاك والتمدد ..الخ. العلم التطبيقي بدأ بالتعرف عليها بالملاحظة والتجريب والمقارنة، حتى توصل الى معرفة أن هنالك قوانين ثابتة تسير بموجبها، فشلت كل محاولة لتعديل أو إلغاء لأية خاصية أو مسار أي من قوانينها، لذلك انصب الجهد على استغلال تلك القوانين بصنع آلات مفيدة. عندما تأكد العلماء أنه لا يمكن قهر هذه القوانين، ولا حتى تعديلها قيد أنملة، يفترض بمن يحتكم الى المنطق أن يعني ذلك له أنها لا يمكن أن تكون وضعت نفسها بنفسها؟، ألا يعني ذلك أن وراءها قوة قاهرة ضابطة لها دائمة السيطرة على مساراتها بكل دقة؟، ألا يفترض إذاً أن يكون العالِم المحايد أول مؤمن بالدين؟: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر:28]. من يلمس الدقة الفائقة في تنظيم تلك الظواهر، والتي وجدها جميعا محكومة بقوانين لا انفلات منها، يجب أن يهديه عقله الى معرفة أن هنالك خالق قادر حكيم، ومن ينكر ذلك فهو خائن لأمانة عقله، فلا يتبعه ويحتكم اليه كما يدّعي، بل يركبه ويسوقه وفق هواه. لو عدنا إلى أصل العلم ومعناه ، لوجدناه على درجات ثلاث، أعلاها هي العلم بالله، يليها العلم بأوامر الله، وأدناها هي العلم بما خلق الله، وهذا هو العلم التطبيقي الذي يتعلمه البشر عامة، وفيه تندرج كل القوانين الطبيعية والنواميس الكونية التي تضبط حياة الناس والكائنات والأجرام الكونية، في هذا العلم (الثالث درجة)، يتبارى البشر تقدما وتأخرا، وفيه يحققون احتياجاتهم المعيشية في حياتهم، هؤلاء العلماء "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" [الروم:7]، لذلك لا علاقة للدين في التقدم العلمي والتقني، لأن قوانين الكون وضعها الخالق للبشر جميعا، وليست مختصة بالمؤمن فقط، فينهل منها كل من يستطيع ذلك من الناس بلا قيود ولا حدود " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا " [الرحمن:33]. لكن هذا العلم محصور بالدنيا وبكل ما يفيد الناس خلال فترة وجودهم فيها، لذلك فإن العالِم مهما تفوق في هذا العلم، لن ينفعه ذلك في الحياة الآخرة، إلا إن ارتقى الى الدرجتين الأعلى، مصداقاً لقول رب العزة: " يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" . الدرجة الثانية من العلم هي علم بأوامر الله، أي التشريعات والأحكام التي أنزلها إلى البشر عن طريق الأنبياء، وهي الضامنة للعدالة والمساواة، والمنظمة للعلاقات المجتمعية والعيش التعاوني بين البشر بسلام وطمأنينة، لذلك فإن هذا العلم ينفع الناس في الدارين، لأنه مبني على طاعة الله من ناحية وصلاح الحياة من ناحية أخرى. أما الدرجة الأولى فهي الأعلى والفضلى، ويكتسبها الإنسان عندما يعرف الله، يعرفه بصفاته ( أسمائه الحسنى ) وفي الدنيا من غير أن يراه، لأن البشر جميعا يوم القيامة سيعرفونه حتما سواء من كان آمن به في الدنيا أم كفر، لهذا السبب فهو العلم الأسمى الذي تتحقق فيه المعرفة من غير الحاجة إلى أدوات العلم الأدنى (الملاحظة الحسية والمقارنة والتجريب فالإستنتاج )، وبهذه المعرفة يرتقي ويسمو كلما ازداد قربا من الله عز وجل لأنه سبحانه مصدر المعرفة والكمال المطلق. هكذا نخلص أن العلوم التطبيقية بأنواعها هي علم بما خلق الله، وهو أدنى درجات العلم تفاضلا ، فهي علم نافع فقط، لكن العلم بأوامر الله نافع ورافع، والعلم بالله نافع ورافع ومُسعِد.اضافة اعلان