العنف و"الحضارة"..!

بسبب قوة الخطاب وامتلاك أدوات بثه وإيصاله، رسّخ الغرب فكرة أن الغربيين البيض هم التجسيد النهائي للحضارة وتعزيز حقوق الإنسان. ونسمع عربا، ساسة ومفكرين، يمتدحون الغرب كحضارة متفوقة ويدعونه إلى التدخل في بلادنا أحيانا، سواء لجلب الديمقراطية وتحرير الشعوب ونصرة الأقليات، أو تزويدنا بالمساعدات والمشورة من أجل التقدم. بل إن بعض هؤلاء يوجهون الدعوة جهارا إلى استيعاب الكيان الصهيوني، كجزء من ذلك التكوين الغربي المتفوق، ويبيعونه كفرصة لمساعدة بلداننا في حماية و"تحرير" نفسها من هيمنة جيران الإقليم الآخرين، أو في الاقتصاد، أو حتى في التقدم التقني. (المظهر الأوضح هو شراء دول عربية برمجيات التجسس "الإسرائيلية" لمراقبة المعارضين).اضافة اعلان
هذه النظرات الانتقائية تتعمد التعتيم على الشروط المسبقة لـ"التفوقية" الغربية أو البيضاء، والتي تضمن إطفاء ألق الآخر وضمان تخلفه حتى يظل الغرب في طليعة السباق. وأدوات تحقيق هذه الشروط واضحة، لمَن يريد أن يقرأ ويشاهد. في أوروبا كان مشروع الاستعمار الذي استكمل النهضة العلمية وصعود الرأسمالية الأوروبية -بالاستيلاء على موارد المستعمرات وخاماتها، سواء لتحويل الابتكارات العلمية النظرية إلى سلع، أو تأمين طرف مستهلِك فقط بلا أدوات للابتكار والإنتاج والمنافسة. وتم تبرير مغامرات المضارِبين والأفاقين وتجار العبيد بأنها "مهمة الرجُل الأبيض"، المتمثلة في تنوير "الهمجيين" وإخراجهم من البربرية. وما يزال هذا التسويغ يباع حتى الآن، بصياغات مختلفة: "التحرير"، "التدخل الإنساني" و"محاربة الإرهاب".
في حالة الولايات المتحدة، رمز "التحرير" و"الحضارة" و"التنوير" و"الدمقرطة" في القرن الأخير تقريبا، كان أول عمل تأسيسي لها هو إحكام الاستيلاء على الأرض التي استعمرها مؤسسوها، بتنفيذ عملية تطهير عرقي وإبادة جماعية منهجية هائلة لأصحاب الأرض الأصليين –"الهنود الحمر". وجرى طمس وجودهم وحضارتهم، وتصويرهم كهمج وحشيين أقرب إلى الحيوانات. وقد استولى المستعمرون البيض على أراضي السكان الأصليين الزراعية المنتجة، وخدعوهم وشكلوا ميليشيات لمطاردتهم وقتلهم وسلخ فروات رؤوسهم لأخذها مكافآت "على الرأس". ووضعوا من تبقى منهم في "محميّات" وأخضعوهم لأسوأ أشكال الفصل العنصري والازدراء والتصفية. أضف إلى ذلك إرث العبودية الخاص في الولايات المتحدة، التي سخرت العبيد للزراعة والبناء والخدمة، وما يزال هذا الإرث راسخا في النفسية الأميركية حتى اليوم، إلى جانب التمييز ضد المهاجرين والمسلمين والملونين. وأضف الإخضاع العسكري والسياسي والثقافي الأميركي لكل آخر في العالم، والاستئثار بالقرار العالمي، واقتران "المصلحة الأميركية" بإعدام أي مصلحة للآخرين في العالم.
بالنسبة للمشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين المحتلة، القادم من الغرب والمنتمي إليه بلا مواربة، والمدعوم من الولايات المتحدة بالذات، فقد استخدم نفس الخطاب والأدوات: جلب الحضارة والديمقراطية والقيم الإنسانية إلى منطقة متخلفة، والاستيلاء على أرض سكانها الأصليون شبحيون ومتخلفون أيضا. وكمشروع استعماري، كانت أدوات حاضرة ومجربة: الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لأصحاب الأرض الأصليين (نفس أدوات أميركا لتثبيث مشروعها في الأرض المستعمَرة). وكما تبيّن، ينتهي المطاف بهذه المشروعات التي تستخدم القوة القهرية والخطاب الفوقي إلى النجاح في إخفاء هذا الجانب التأسيسي، وتسويق نفسيهما كمثال يُحتذى ويجتذب مريدين ومدافعين ومروجين –خوفاً وطمعاً. وفي ذلك ما يثير السؤال المستحق عما إذا كان الغرب المتفوق، بنظريته وأدواته، هو النموذج الحتمي للنجاح في العالم المقسوم بين مهيمن وخاضع –ولا شيء بينهما.
كان سكان أميركا الأصليون سيبلون حسنا لو ظلت قارتهم لهم حتى اليوم، في ضوء تطور الإنسانية. ولم تكن إبادتهم شرطا ضروريا لنجاح أميركا كقارة. كانت لهم في تلك الأوقات المبكرة مجتمعات وقرى زراعية مستقرة وفلسفات وأفكار ونظم وهيكليات. وفي حالة فلسطين الأقرب تاريخا والأوضح، يجد العدو صعوبة في إخفاء التقدم الحضاري المادي والثقافة الموثقين جيداً قبل الاستعمار. ومن المؤكد أنها كانت ستبلي حسنا من دون استعمار –أفضل بالتأكيد من أرض الصراع والعذاب الذي هي عليه.
الذين يمتدحون التفوق الغربي في معزل عن مقدماته ومصاحباته من العنف الحتمي، إما أنهم غير مخلصين للأخلاق الكونية، أو براغماتيين ميكافيلليين –وإنما بلا مشروع.
العنف واللاأخلاقية وتبريرهما كأسس لنجاح مشروعات التفوق الأميركية والأوروبية ليسوا مخلصين لأي قيمة إنسانية أو تقدمية. وينبغي ألا يُسمعوا على الأقل في منطقة ينتمون إلى نقيضها المعادي، بوضوح.
المسالمون علاقة صراع وليس تكامل (إلا بالقدر الذي يعني الطرف المهيمن بضمان مكمل تابع مستهلك)