العودة إلى الطريق الثالث

ربما يفتح انتخاب مانويل ماكرون رئيسا لفرنسا المجال مرة أخرى، للتحول باتجاهاتٍ توفيقيةٍ أو مختلفةٍ كثيرا عما ألفته الحياة السياسية. والحال أن العالم تسوده حالةٌ من عدم اليقين وعدم الأمان أيضا، بعدما صارت جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية التي صعدت ونضجت في ظل الثورة الصناعية، مثل الأحزاب السياسية والمدارس والشركات والبنوك والحكومات والبرلمانات، عرضةً لمراجعةٍ استراتيجيةٍ في معناها ودورها وجدواها، وذلك بفعل الثورة الشبكية التي غيرت/سوف تغير، القيم السياسية والاجتماعية المنظمة للحياة العامة والخاصة، وعلاقات الأمم بالسلطات والأسواق. اضافة اعلان
صعدت موجة الطريق الثالث في التسعينيات، وظهرت كأنها تبشر بتشكلاتٍ اجتماعية سياسية جديدة، تستجيب لانتهاء الحرب الباردة، وعالم ما بعد الصناعة، وما بعد الحداثة، وإن كانت فلسفةً اجتماعيةً، تستمد وجودها من الفكر البريطاني قبل فترة طويلة، لكنها "الطريق الثالث" لم تبلور لنفسها بعد نظرية اجتماعية معرفية كبرى إلى جانب الرأسمالية والاشتراكية، وما تزال أقرب إلى شبكةٍ أو مجموعة من الأفكار الصغيرة والمشروعات التجريبية والفلسفات التي تتكوّن من خلال التقويم والممارسة.
يعدّ عالم الاجتماع أنطوني جيدنجز، المنظّر الأول للطريق الثالث، وقد أصدر العام 1989 كتابه "الطريق الثالث: تحديد الديمقراطية الاشتراكية". وفي العام نفسه أصدرت الجمعية الفابية لطوني بلير كتاب "الطريق الثالث: سياسات جديدة للقرن الجديد"، وقد اعتمد بلير على هذه الإسهامات النظرية، لكي ينشئ حزب العمال الجديد الذي صاغ برنامجه السياسي، ونجح في الانتخابات على أساسه. وتحوّل الطريق الثالث إلى  برنامج سياسيّ للحزب الديمقراطي الجديد الذي أسهم في تأسيسه الرئيس الأميركي بيل كلينتون ونائبه آل غور، وشكلت أفكار هذه النظرية البرنامج السياسي لكلينتون الذي فاز على أساسه في انتخابات الرئاسة، لأنه ركّز أساساً على برامج الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، واهتم اهتماماً خاصاً بالفقراء، والأقليات، والمهمشين، إضافة إلى نجاحه في القضاء على البطالة، ودفع التقدم الاقتصادي. وكان وراء هذه الجهود السياسية عالم السياسة الأميركي سيمور مارتن، الذي أصدر عام 1990 كتاب "التجديد السياسي في اليسار: منظور مقارن". يصف كلينتون منهجه ومجموعته بالقول "سياستنا ليست ليبرالية ولا محافظة، وليست ديمقراطية، ولا جمهورية، إنها سياسات جديدة مختلفة".
وقد وضع روجر بيكون الفكر الفلسفي الإنكليزي على قاعدتين مستقلتين، الدين والعلم الصحيح، بخلاف الفكر الأوروبي القائم على التناقض والصراع بين الدين والعلم. وكان بيكون تلميذاً مخلصاً للثقافة العربية الإسلامية، وتأثر على الأخص بـ "ابن سينا" الذي اعتبره بيكون أعظم فيلسوفٍ ظهر بعد أرسطو، وممن يعبر عن هذا الوضع الفكري جورج برنارد شو، الذي كان يدعو إلى الاشتراكية والحرية الفردية في آن، حتى وصف بأنه "وحدة من المتناقضات".
يخطئ مثقفون كثيرون عند النظر إلى "الطريق الثالث" بأنها فقط محاولة للتوفيق بين الاشتراكية والرأسمالية، لكنها أهم من ذلك، فهي محاولةٌ جديدةٌ لفهم المجتمع الإنساني في القرن الحادي والعشرين، وصياغة مفاهيم جديدة ونظريات مستحدثة، تعيد تحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتمثل محصلة الخبرة المريرة للإنسانية مع النظم الاشتراكية التي ضحّت بالحرية لحساب العدل، والنظم الرأسمالية التي ضحّت بالعدالة لحساب الحرية، وتعد "المحاسبة الاجتماعية" أهمّ ما يميز البرامج التطبيقية لأصحاب هذه النظرية. ويعبر كتاب كلينتون "رؤية لتغيير أميركا = الاهتمام بالناس أولاً" عن هذه الرؤية الجديدة التطبيقية، مثل التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية، والحد من الأسلحة، الفنون، والعناية بالأطفال وكبار السن، وتطوير المدن، والحقوق المدنية، ومسؤولية الشركات، ومواجهة الجريمة والمخدرات.
يقول كلينتون: أدت سياسات الحكم السابقة إلى زيادة غنى الأغنياء، ومعاناة الطبقة الوسطى، الناس الذين يكدحون ويلتزمون بالأصول، فقد أعطوا للحكومة ضرائب أعلى بكثير مما أخذوا. عجزت واشنطن عن إعطاء الأولوية للناس، فلا عجب أن حقق وطننا أسوأ سجل اقتصادي له في خمسين عاماً.