العِقد المحذوف من التاريخ و .. المناهج

خمس سنوات قاسية، ودموية، مرَّت على انطلاق الربيع العربي الخائب، والذي انتهى إلى مآلات مأساوية وخسارات فادحة. لا يعني هذا بالطبع أنني لم اكن من مؤيديه كفكرة مغرية لأي مواطن عربي، لكنَّ ما استوى اليه الأمر كان كارثياً.اضافة اعلان
ودعنا الآن لا ندخل في أسباب ذلك، فهي عديدة ومتشعبة ومثيرة للمناكفات.
لكنَّ المهم الآن، ان هذه الدول التي ابتليت بكوارث لم تكن مستعدة لها، وحتى تلك التي سوقّت الأمر على أنها أنجحت التجربة ونجت منها، ستحتاج لسنوات طويلة لإعادة ترميم ما تم تخريبه، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفي سياقات لا تعدّ.
ولنفترض، بكثير من التفاؤل، ان السنوات الخمس المقبلة هي سنوات الاستدراك والتصحيح ( رغم النفور المعروف من هذه الكلمة ) وإعادة البناء، ليعود الامر كما كان عليه ( وهذا بالطبع لا يشمل إعادة آلاف الضحايا الى الحياة)، فما هو الناتج الوطني والقومي، والناتج التاريخي، من هذه السنوات العشر، وتحت أي عنوان ستوضع حين يجري تحديث المناهج المدرسية ؟!
كيف سيتعامل المؤرخ مع هذا العِقد، وبماذا سيسميه، وهل سيلتقي المؤرخون العرب على فكرة واحدة تجاه ما حدث، أم ان الظرف السياسي والاعتبارات المناطقية والطائفية ستملي رؤى متباينة ومتعددة، ومن جهة أخرى سيقود ذلك حتماً الى مناهج دراسية متضادة في الدول العربية، فما تراه هذه الدولة “ثورةً” تراه الاخرى “انقلاباً” أو “تمرداً” أو “فوضى” أو “ارهاباً”، وهذا سينتج بدل “كتاب التاريخ” كتباً
و”تواريخ” عديدة، وستتدخل السياسة لتطغى على التوثيق، بل إن تضاد وجهات النظر وتشاجرها قد يتجاوز “التاريخ” الى “الجغرافيا” أيضاً، حين يرى طالب في البلد الفلاني أن المدينة أو المنطقة “أ” تابعة لبلده، .. وحين يهاجر لاجئ إلى بلد أوروبي سيلتقي بلاجئ عربي آخر يخبره انه درس في المناهج أن المنطقة “أ” تابعة لبلاده هو !
هذا العِقد سيكون مربكاً للمؤرخ العلمي الموضوعي، وكذلك لمؤرخي السلاطين، وللمناهج، وحتى للتاريخ الشفوي عند الناس العاديين، وسيرتبك أب حين يسأله ابنه هل ما حدث في الدولة “ص” كان ثورة ؟ إذا لماذا لم تكن المُخرجات مُخرجات ثورة ؟!!
لم يعش العرب عقداً أسوأ من هذا الذي انقضى نصفه، ... لكن حتى هذه العبارة ليست دقيقة تماماً، فلا أحد يحزر الآن على السوء الذي ينتظرنا في نصفه الثاني، ولم يعد لدى العربي خيارات ليحلم بها، فقد حلم قبل ذلك بالإسلامي والقومي واليساري، وكلهم حين اعتلوا سدّة الحكم نكَّلوا به وبأحلامه. وهو لا يحلم الآن بشيء، سوى أن ينام مطمئناً على أولاده وهو يرى آلة الحرب تلتهم أولاد جيرانه.
وهذا أسوأ ما يمكن ان يحدث لأمّة؛ أن تفقد أحلامها، ولا يعود لديها ما يمكن أن تراهن عليه.
أمّة لم تعد لديها ثقة بأحزابها ولا بمفكريها ولا بمثقفيها ولا شيء لديها تفعله لتردّ عن نفسها وابل الرصاص من حكامها ومن أحزابها، .. أي عصر انحطاط يمكن أن يوصف هذا في كتب الأجيال المقبلة !
وكيف سيقرأ الطالب أن بلاداً دفنت أبناءها وبناتها وبيوتها وشجرها وشبابيكها وحيواناتها بيديها وبجيشها، وقاتلت الأخ بأخيه، وظلَّت تتبجح بكل وقاحة أنها في طريقها لتحرير “فلسطين” !!
أي كابوس سيعيش طلابنا في المستقبل وهم يقرأون ما حدث.
كل ما نتمناه أن لا يصدِّقوا التاريخ الملفَّق والمزوَّر كما صدَّق جيلنا أننا كنا أمّة الفتوحات والنصر المبين.