الغاز "الإسرائيلي"

بعد كل النقد والرفض الشعبيين وعقب الملاحظات الفنية حول صفقة شراء الغاز من إسرائيل، وقعت حكومة د. هاني الملقي، ممثلة بشركة الكهرباء الوطنية، الاتفاقية. وقد جاء التوقيع في فترة تسلم حكومة الملقي مهامها باعتبارها حكومة تصريف أعمال، كما حرصت على أن يتم ذلك قبل انعقاد مجلس الأمة، وتحديدا مجلس النواب المنتخب حديثاً.اضافة اعلان
الخلاصة هي أن الحكومة اشترت وقتا لتجنب ردود الفعل النيابية. لكن ذلك لم يمنع رد الفعل الشعبي الذي تمثل في المسارعة، منذ اللحظة الأولى، إلى تأكيد استمرار رفض المبدأ، برفع شعار "غاز العدو احتلال"، في تعبير عن المعنى الحقيقي للاتفاقية التي فُرضت على الأردن، مع كل ما يلي ذلك من تبعات على المملكة، لاسيما فيما يتعلق بتطبيق مبدأ أمن الطاقة.
الحكومة حاولت الاختباء خلف التركيز على أن الشركة المستخرجة للغاز أميركية. وهنا الحلقة المفقودة؛ فربما لو لم تكن الشركة المنقبة والمستكشفة أميركية، لتمكنت الحكومة من التنصل من توقيع الاتفاقية. إذ تشير المعلومات المسربة إلى أن الحكومة الأميركية مارست ضغوطا على الأردن للتوقيع، بلغت حد التلويح بملف المساعدات المقدمة للمملكة لأجل إبرام الاتفاقية.
بالنتيجة، تدرك الحكومة جديا مخاطر التوقيع، بل وربما تكون هذه ذاتها غير راضية عن الاتفاقية، ناهيك عن خشيتها المواجهة مع الرأي العام لمناقشتها. لكن ذلك لا ينفي أبداً أن هذه المواجهة والحوار لن يأتيا، آجلا إن لم يكن عاجلا؛ مع النواب، ومؤسسات المجتمع المدني، والقوى الشعبية المناهضة للاتفاقية التي تربط مستقبل الأردن الطاقوي بدولة مشهود لها بعدم احترام المواثيق.
الحكومة الأميركية مارست الضغوط لخدمة واحدة من شركاتها العابرة للقارات. وهذا ما تفعله حكومات أخرى؛ فليست سابقة أن تضغط حكومات أجنبية على حكوماتنا تحديداً لخدمة مصالح شركاتها، وقد سبق الولايات المتحدة إلى ذلك الفرنسيون والبريطانيون أيضا.
من ناحية أخرى، فإنه لو لم يكن الغاز "إسرائيلياً"، لمرت الاتفاقية طبعاً بيسر وسهولة، من دون أي رد فعل غاضب عليها، بحسب ما يقول أكثر من مصدر حكومي؛ يؤكدون أن الاتفاقية، من النواحي الفنية، منصفة، كما أن الأسعار تفضيلية، إنما من دون أن يوضحوا ماهية التفضيل الذي يتحدثون عنه.
بكل الأحوال، سيرهن الأردن مستقبله الطاقوي، نتيجة الاتفاقية، بدولة الاحتلال؛ لأنه سيعتمد بنسبة كبيرة على دولة تتسم العلاقات معها بعدم الاستقرار، بل وحتى الاستفزاز بحكم أعمالها الإجرامية الدائمة بحق الشعب الفلسطيني.
كما أن رد الفعل الشعبي مستمر، لأن الفكرة بحد ذاتها تستثير غالبية الأردنيين، وبحيث يتواصل التصعيد الشعبي بأكثر من اتجاه، وآخر تجلياته الدعوة التي أطلقها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، لإطفاء الأنوار اليوم الأحد، لمدة ساعة تبدأ من التاسعة مساء وحتى العاشرة، تحت عنوان "#غاز-العدو-احتلال".
وحقيقة أن المزاج العام سيبقى رافضا للاتفاقية، تستدعي وضع خطة بديلة رسمية، كما تقديم المعترضين بدائلهم المقترحة لحل مشكلة الطاقة والأزمة المالية الخانقة المترتبة عليها، والكشف أيضاً، من دون مواربة، عن تبعات التراجع عن الاتفاقية بكل شفافية ووضوح.
يبقى القول إن التطبيع مع إسرائيل فشل على مدى عقود، ولم تستطع كل الاتفاقيات تغيير قناعات الناس تجاهها. ثم، كيف يستوي أن توقع حكومتنا اتفاقا مع دولة الاحتلال، فيما يشهد العالم بأسره اليوم حملة مقاطعة لها؟
تفاصيل الصفقة ما تزال سرية، وثمة أسئلة بانتظار الإجابة، أولها من سيبني الخط المطلوب لتوصيل الغاز وكلفته 70 مليون دولار، وما الوفر المتحقق منها؟ وما مصير الكميات الفائضة عن حاجة الأردن من الاتفاق؟ ما هي العقوبات على المملكة في حال تراجعت عن الاتفاق؟ وكم سيصمد الاتفاق؟
خلاصة القصة هي أن قراراتنا لن تكون مستقلة ومستقرة طالما نحن دولة تعتمد على الغير في جزء مؤثر من إيراداتها. وما يحدث بشأن الغاز "الإسرائيلي" ينطبق على مجالات وقضايا ترتبط بدول أخرى، بما يستدعي العمل على الاعتماد على الذات، مع إدراك حجم الوجع الكبير، المرحلي على الأقل، من تطبيق هكذا مبدأ، على مستوى المجتمع كما الحكومات.