"الغاز" من زاوية أخرى

"كيف سأطهو لأولادي وأحفادي طنجرة المقلوبة فوق موقد مشتعل من ذاك الغاز، الذي سيجلبونه لنا منهم؟" تسأل أم أحمد بكل جدية وانفعال، منتظرة جوابا يبرد نارها المتقدة بصدرها، منذ أن سمعت بالخبر. تعتقد ومن كل عقلها أن إثما ستضطر إلى ارتكابه في الأيام المقبلة، حين تقف فوق الموقد ثلاث أربع مرات في اليوم، تغلي قهوة أولادها لأنهم لا يستقظون قبل أن يشتموا رائحة الصباح البنية. تفلفل أرزها المشهور بالبهارات، قبل أن تبدأ مناوباتهم في الوصول تباعا، والتململ من انتظار الآخرين. تعد لنفسها شاي المغرب الذي تبقيه ليتخمر فوق شعلة مطفأة لكنها ساخنة، بينما تنتهي من الصلاة. "أي طعم سيكون للحياة بعد اليوم، بل أي سم" تقولها وهي تنتفض من أمام شاشة التلفاز الذي يبث على الهواء مباشرة، جلسات النواب الغاضبين من بيان الحكومة الذي تعلن فيه تحمل مسؤولياتها كاملة!اضافة اعلان
الشعور نفسه، لكن بحدة أعلى تعبر عنه "أم نبيل"، حين قامت من نومها "مستشرة"، مبيتة نيتها على بيع صوبتي الغاز بنفسها، في سوق الخردة لتستبدلهما باثنتين أخريين تعملان على الكاز. "حتى لو لم أبعهما بسعر معقول، لن أعيدهما معي ولو اضطررت إلى رميهما في الشارع" تردد لنفسها السيدة الحزينة، الواثقة كل الثقة أنه لا دفء سيسري في أوصال صغارها بعد اليوم، طالما كان مصدره هذا الغاز البارد اللئيم.
للأسف الشديد أن أمهاتنا وآباءنا لم يكونوا ضمن الحسبة التي أعدوها للخروج من أزمة الطاقة الطافية على سطح النقاش الرسمي والشعبي. حتى الحراكات والجهات الرافضة لفكرة الاستعانة بالغاز الإسرائيلي، لم تنتبه أن مخزونا وجدانيا متعمقا، وقد تجاوز السبعين عاما، من عمر الصور والذكريات السوداء، من الصعب تحفيزه نحو رفض أو قبول الصفقة، ولو مرحليا، لأنهم يتعاملون مع المشهد ككل بعاطفة شديدة اللهجة، ترى خارطة القضية بلونين، أبيض وأسود فقط.
أتحدث عن آبائنا وأمهاتنا تحديدا ليس لأننا الجيل الذي تلاهم أقل ارتباكا منهم في التعامل مع الخبر. لكننا وبصراحة شديدة تركنا لهم هم الممانعة والرفض الكليين، وجلسنا نتحاور ونتداول الأمور لثلاثين عاما أو تزيد، كي نصل إلى نتائج "مرضية". هم ما يزالون حتى اليوم يرتجفون من مجرد تخيل التعاون المشترك مع عدو ترك لهم في ذاكرتهم المتبقية، أرشيفا صوريا وحسيا مبنيا على تاريخ الدم والتشريد. ونحن نكتفي بقشعرة في الأبدان وانتفاضة في الكلام واستياء شبه عام، ناهيكم عن السخرية والاستهزاء وروح الفكاهة التي تم اكتشافها مؤخرا!
هل سيتغير شيء؟ لا أعتقد. بل سيتسير بنا الأيام كما هي اليوم وأمس وأول من أمس وغدا. لا أتهم أحدا بالبرود أو التخاذل من جيلي أو جيل هذه الأيام. لكن علينا أن نعترف أنه ثمة "لسعة" في قلوب أهالينا، لم تصل كل مشاعرنا الغاضبة الرافضة إليها. البركة طبعا بالتطبيع التربوي والتعليمي والثقافي والعلمي والحياتي بشكل عام، مارسته باقتدار يشهد لها آلية تكنولوجيا المعلومات ومدارس الحداثة الخبيثة في الأدب والعلم والعلاقات العامة والسياسة والمال بلا شك. تلك التي تركت الباب مواربا لتسلل الأفكار الجديدة والعصرية منطلقة من قاعدة التقبل والاعتياد. ثم يأتي دورنا الثاني في "الدهلزة" على أهالينا والاتفاف على وعيهم لنضمن عيشهم بيننا باطمئنان وبدون وجع في الرأس. وليس أدل على هذا الكلام أكثر من حالة الاستخفاف التي تواجه الأصوات الممانعة للصفقة، على اعتبار أننا محتلون من رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا حسب رأي المستخفين، فماذا يعني اتفاقية غاز في حفل الاحتلال الكبيرة؟! هذه هي النقطة بالضبط التي تفصلنا عن جيل آبائنا، فهم حتى اليوم يستحيل أن يتعاملوا مع القضية باستخفاف.
أزيدكم من الشعر بيتا؟ السيدة الفاضلة "أم أحمد" التي حدثتكم عنها في أول المقال، اتصلت بمفتٍ شرعي قبل أيام لتسأله، إن كان طبيخها على الغاز الإسرائيلي حلالا أم حراما!