الغربة والوطن.. أشياء صغيرة..

أحبابنا "المغتربون" بيننا، فمرحباً بهم يحلون أهلاً ويجعلون صيفنا أكثر حياة وأجمل.. وأهلاً باجتماع الشمل وعبق الذكريات التي يجلبونها في حقائبهم، خاصة إذا كانوا ممن أطالوا الغيبة وبعدت بهم الشقة.

اضافة اعلان

وما أجمل أن نرى احتفاءهم بالأشياء الصغيرة التي نمرّ بها كل يوم مرور العابرين، فيوقظون انتباهنا إليها واحتفاءنا بها. وكم نتندر بعد بدء موسم هجرتهم التالي بتذكر ما كانوا يشتاقون إليه، ونفكر في الاغتراب والوطن بمعانيهما الكبيرة والبسيطة.

كان أول شيء فعله قريبي الجميل العائد من أميركا بعد غيبة طويلة شأناً طريفاً، حين طلب من والده مرافقته على عجل إلى وسط عمان البلد، ليسدد دَيناً قديماً يبدو أنه ظل يؤرقه.. وعرفنا بعد ذلك عن مغامرته الشائقة أيام الشقاوة حين تناول وجبة في مطعم محترم في وسط "البلد" وانسل من دون أن يدفع ثمنها.. وبمجرد أن أفرغ حقائبه في عمّان في أول زيارة بعد الغيبة الطويلة، سارع في اليوم التالي ليفاجئ محاسب المطعم بدفع ثمن وجبة قديمة جداً، ومع الفوائد وفرق العملة طبعاً..

قريبي العائد نفسه، جعلني أرافقه في جولة إلى المناطق التي يتذكرها في وسط البلد.. وفيها عرجنا طبعاً على مقهى قديم يتذكره، وعلى مطعم الفول والحمص الذي اعتاد ارتياده، وتناولنا "الكنافة" في المطعم الذي أكل فيه مرة أيضاً ولم يدفع الثمن حين كان فتى، ولاحقه العمال حتى أفلت منهم في زحمة مجمع رغدان القديم.. وبالنسبة لي أنا الذي لم أغادر، كانت الجولة إعادة اكتشاف لنفس المطارح التي كنت أرتادها ولم أعد أفعل.. وفكرت بأن مجرد الانتقال بين مكانين في عمّان يستطيع أن يجعل المرء "مغترباً" إلى حدّ ما، عن طفولته وأماكنها وذكرياتها..

أما وقد أراح قريبي ذمته المالية في تلك الزيارة الأولى، فقد انتبه في هذه الزيارة الأخيرة إلى روعة "الزيت والزعتر"، وليس على طريقة "المناقيش"، وإنما تغميساً من "الصحنين" على سجية الأشياء.. وتراه يتحدث عن هذه الوجبة بحماسة وكأنها اكتشاف كبير وأفخم طعام في الوجود، فيتندر الحاضرون من "أهل البلد" الذين قلما يغيب الزيت والزعتر عن موائدهم، بكافة أشكالهما وتجلياتهما، من هذه "المبالغة" في الإطراء..

ليس صاحبي بسيطاً أو "خالي البال"، كما يوحي اهتمامه بالأشياء البسيطة، وإنما هو يتابع بنظرة تحليلية ونظر ثاقب كل ما يحدث "هنا" و"هناك"، ولا تغيب عنه التفصيلات الصغيرة حين ينتقل بالحديث من الزعتر إلى ألعاب السياسة العالمية وأحوال الناس ومصائرهم وأسئلتهم الوجودية الكبيرة.. لكن حديثه عن الزعتر يبقى مع ذلك أقرب إلى القلب، لأنه يجعل العالم بسيطاً، وفكرة الوطن أكثر حميمية وأقل عبئاً.

لاحظت هذا الفارق بيننا، نحن المقيمين في الوطن، وبين أحبابنا المغتربين في رحلات جماعية أخذونا فيها معهم إلى زيارة البتراء وقلعة عجلون وأماكن أخرى نسينا أن نريها لأولادنا، أو لم يكن بعض الكبار منا قد زاروها من قبل.. وفي الحافلة المستأجرة لتتسع لكل هؤلاء الذين يندر أن يجتمع شملهم في مكان واحد، رأيت شكلين من التعبير عن الوطن: شكل الأغنيات الحماسية التي تبثها إذاعة محلية بالتتابع، وشكل الاهتمامات العفوية التي عبَر عنها المرتحلون المرحون.

وبدت الأغاني وكأنها تكرار للحن واحد بتنويع خفيف، معزوفة كلها على آلة "الأرغول" التي نسخها المهندسون الإيطاليون واليابانيون ببراعة ووضعوها على آلة "الأورغ" الكهربائية.. أما موضوعات الأغاني فمكرورة بدورها، ولا تتحدث عن رحلة إلى غور الأردن وبساتينه. وتذكرت أن قريبي نفسه كان قد أضناني معه في البحث خلال زيارته الأولى عن شريط لأغنية ميسون الصناع "لازرع لخيي ثلاث وردات، واسقيهن من ميّة العينِ"..

يتساءل المرء لدى تأمل مواطن حنين هؤلاء الغائبين الحاضرين عن ميلنا إلى التعقيد أمام مفردة الوطن.. هل تعني الصراخ العالي واستنهاض اللغة والبلاغة، أم أنها مجرد هذه الأشياء البسيطة التي لا نجدها في أوطان الآخرين؟ الجواب طبعاً عند "المغتربين" الذين خبروا افتقاد الوطن. أما نحن الذين نضيق أحياناً بازدحام شوارعنا حين يأتون، فكم يوسعّون لنا من آفاق الروح، ويختزلون لنا المعاني الكبيرة في الأشياء الصغيرة..!

[email protected]