الغش كطريقة حياة..!

في الشهر الماضي، ضبطت الجهات الرقابية في الأردن 50 صاحب صهريج يغشون مواطنيهم ويبيعونهم الهواء بدلاً من السولار. وقبل أيام، أخذ صديق مدافئه التي تعمل بالكاز لإصلاحها، فأخبره الفنيّ أن الخراب حصل لأن الكاز مخلوط بالماء. قال له الصديق إنه يشتري الكاز من محطة معروفة يُستبعد أن تغش. فقال له الفني إن سائق الصهريج يستطيع أن يتوقف في الطريق بين المصفاة والمحطة، ويفرغ كمية من الكاز ويضع محلها ماءً قبل أن يوصل الشحنة إلى الخزان! ربما! وأمس، أخبرني صديق في دائرة حكومية تقدم خدمات لوجستية، أن لديهم مسؤولا يلقبونه "أبو جودت" (مثل ضابط المخفر المرتشي في مسلسل "باب الحارة")، لا يسمح بتحريك الفرق والمعدات إلا بعد تقاضي "المعلوم"، من دون أن يجعل ذلك سراً.اضافة اعلان
وقبل أيام، جهدتُ في البحث عن فنيّ موثوق ليصلح خللاً صغيراً في التدفئة المركزية. وبدل الواحد، أحضر لي أحد الجيران اثنين، رفض أحدهما (المعلم) الرد على مكالمة زبون بدعوى الاستغراق في العمل وفرط الالتزام! أصلح "الراديترات" في دقيقة (بفتح أو إغلاق محبس غالباً)، ورفض الكشف عما فعل -"حفاظاً على سر الصنعة"، واستبدل وصلة كانت تسرب الماء، وأخذ الأجر الذي طلبه من دون فصال. وفي الصباح التالي، وجدنا الغرفة غارقة في الماء تحت الوصلة. اتصل الجار به، فقال إنه لن يأتي قبل المساء -من كثرة الشغل- ولا يهم أن تغرق الغرفة. وجاء، وركب وصلة أخرى محل التي تسيل. في اليوم التالي، اكتشفنا أن ماء الأنابيب الذي كان يسخن قبل مجيء "المعلم"، لم يعد يسخن الآن -أصلح "الراديترات" وخرّب تسخين الماء. اتصل به الجار وأبلغه، وقال إنه "سيمر". وما أزال أنتظر!
تشتري قطعة ملابس من محل، ويحلف البائع بأنه لم يربح منك تقريباً، ويلعن الظروف والسوق اللذين أجبراه على هذه "البيعة" الخاسرة. ثم يسألك أحد المعارف بكم اشتريتها، ويريك قطعة "أختها" بالضبط، اشتراها من مكان آخر بنصف السعر. وتؤمن سيارتك عند شركة تأمين "مهمة" وتدفع المطلوب، وتؤمن علاج عائلتك -من جيبك- عند شركة تأمين أخرى. وعندما تشترك في حادث سير، تجد نفسك عرضة للاستغفال -ومضطراً للشجار في كثير من الأحيان- حتى يصلحوا سيارتك كما يجب. وإذا مرض فردٌ من عائلتك، يرفض "التأمين" كثيراً من الفحوصات والعلاجات التي اقترحها الطبيب، باعتبارها "لا تلزم" أو "غير مشمولة". وتقول لك السكرتيرة في العيادة بضيق إن "شركتك" تتأخر في الدفع -أو لا تدفع! وفي طريق عودتك، تفكر في متعهد رصف الشارع وغشّ في الخلطة فتكشفت الحفر، وفي "المسؤول" الحكومي الذي استلم العمل المغشوش. ألا يمران في اليوم التالي ويقعان في مطبات الطريق؟!
عمليّاً، سوف يحتاج كل هؤلاء إلى سلع وخدمات الآخرين. صاحب الصهريج يحتاج فني التدفئة وبائع الملابس؛ وموظف التأمين يحتاج موظف الخدمات "أبو جودت"؛ وسائق سيارة الأجرة الذي يعبث بالعداد ليسرق مواطنيه يحتاج ألف شيء من ألف شخص.. وهكذا. لكنه يبدو وكأن الكثيرين -أكثر من اللزوم- انخرطوا في دورة أصبحت بمثابة أمر واقع لا ينجو منه أحد، حيث أصبح الغش "ثقافة" وطريقة حياة تقريباً، وأصبح صحو الضمير عذاباً لصاحبه. وفي كل حرفة أو مهنة، يبتكرون طرقاً للتحايل حتى يدير المواطن معظم معاملاته وهو يتلفت حواليه!
في الأصل، ينبغي أن يكون لكل سلعة أو خدمة مردود معقول يساويها في المقدار. يجب أن يربح بائع السولار إذا لم يبع الهواء، وأن يكسب فني التدفئة بتقاضي المبلغ الذي طلبه بلسانه لقاء الخدمة كاملة. فما الذي سيستفيده أحد من المساهمة في عملية يكون فيها الآن جانياً وضحية في الدقيقة التالية؟ ولماذا يكون حجم الغش أعلى وأنكى عند الذين ستظل أحوالهم "عال العال" لو أنهم أخذوا لقاء عملهم بحق قدره؟ وكيف ينبغي أن يتعايش المرء مع هذا العوز في منسوب الثقة مع مواطنيه ومسؤوليه، ويستطيع الاحتفاظ بشيء من البراءة والأمان في نفسه؟ والأهم: كيف يظل الغشاشون يجدون الزبائن، بافتراض أن ضحاياهم لن يقعوا في حبائلهم ثانية ولن يظل أحد؟ أهي كثرة الساذجين، أم الاضطرار في ثقافة تتآمر على ذاتها؟!