الفتنة في لبنان وفلسطين والعراق

ليس ثمة ما هو أبشع من الفتنة، فهي "أشد من القتل" كما في القرآن الكريم. وهي في منطقتنا لا تطل برأسها بل نجحت في التسلل إلى لبنان وفلسطين والعراق. ولا يوجد بلد في المنطقة بمنأى عنها. في لبنان الدعوة للفتنة علانية وصريحة بلا خجل. التلفزيونات تقدم خطاب حرب أهلية بامتياز. تكرر تجربة الفضائيات العراقية الطائفية البائسة.

اضافة اعلان

النيو تي في أو التلفزيون الجديد نموذج لخطاب الفتنة المؤيد للمعارضة. يغطي مقتل أحد أنصار المعارضة في أحداث جامعة بيروت العربية. بالصورة الآتية؛ حزن وغضب وصور ضخمة لـ"الشهيد" الذي قتلته "مليشيات تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي". ذوو الضحية يقطعون الطريق ويخرج على الشاشة تسجيل (أي ليس فلتة على الهواء) لشقيق الضحية، ويقول نصا أنه سيقتل من أنصار تيار المستقبل أو الحزب التقدمي ثأرا لشقيقه، ما لم يقم الجيش باعتقال القتلة. طبعا الجيش لا يملك القدرة على اعتقال قناصة لا يراهم أحد.

في تلفزيون المستقبل الصورة المقابلة، "شهيد" آخر بنفس المواصفات قضى في فتنة جامعة بيروت العربية، لكنه من الفريق الآخر. سني يدفن في طرابلس، لا يتردد  الشيخ المعمم في تحميل حسن نصرالله دم الضحية، أي بمنطق الثأر المطلوب رأس نصرالله. أما تلفزيون إل بي سي، في نسخته المحلية اللبنانية، فقد غابت عنه مظاهر الميوعة، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. جحافل "القوات اللبنانية" لبت نداء القائد الحكيم سمير جعجع وتدفقت لفتح الطرق التي أغلقها العونيون، وأعملت فيهم  الحجارة والهراوات، ولم يخل الأمر من رصاص. وكأن الحرب الأهلية بين أبناء الطائفة الواحدة لم تضع أوزارها بعد.

في التدقيق يبدو المنار تلفزيون حزب الله مختلفا. صحيح أنه تلفزيون شيعي، لكنه يحاول تقديم المواجهات في إطار سياسي لا طائفي. ويحاول أمينه العام في كل خطاب تكرار أن "لا المعارضة شيعية ولا الحكومة سنية"، وهو يدرك تماما الفخ المنصوب له، بحيث تتحول صورة مقاتليه من أبطال الأمة الذين هزموا أسطورة الجيش الإسرائيلي ودمروا الميركافاه إلى زعران حارات يحرقون السيارات ويقتلون العزل.

يعرف اللبنانيون جيدا أن حزب الله يستخدم كل قدراته التنظيمية في ضبط الشارع الشيعي، وأن الانفلات والغوغائية التي مورست كانت من طرف حركة أمل. وبحسب أمينها العام نبيه بري فإن حسن نصرالله يخرج مائة ألف إلى الشارع بإشارة  ويعيدهم إلى بيوتهم بإشارة. أما هو فهو يحتاج إلى أسبوع حتى يخرج مائة متظاهر من أمل إلى الشارع ويحتاج إلى سنة حتى يعيدهم إلى بيوتهم.

في خطابه يوم الأحد كان أمين عام حزب الله مدركا للتعقيدات التي نتجت عن أحداث يوم الخميس، وكان يتحدث إلى أبناء الزواريب المكلومين وعينه على الأمة في العراق وفلسطين. خطاب تهدئة غير مسبوق محليا وخطاب تحد وتصعيد غير مسبوق خارجيا. قال إني أقبل أيدي ذوي من قتلوا في مواجهات الخميس معتبرا أن دماءهم مثل دماء شهداء المقاومة محرما عليهم أي فعل انتقامي. فالمطلوب هو فتنة شيعية سنية. خارجيا زاود على بوش، فحزب الله ليس بعد تنظيم القاعدة في الخطورة. عاد إلى الوراء تلميحا فحزب الله لم يكن يوما حليفا لأميركا، في إشارة إلى تحالف أميركا مع المجاهدين في أفغانستان، وهي السنوات التي شهدت أول تفجيرات انتحارية عرفها العالم ضد قوات المارينز في بيروت. وخلافا لتحفظ حزب الله سابقا في الحديث عن المقاومة العراقية صار تأييدها واضحا في خطابه.

لا ينفصل ما يجري في لبنان عما يشهده العراق وفلسطين. وهو ما يجعل المواطن في منطقتنا محصورا بين خيارين إما النظام الشمولي الاستبدادي الذي يوفر استقراراً سياسيا وكفافاً اقتصادياً، وغيابا للكرامة، وإما الفتنة والفوضى والاحتلال والمقاومة والكرامة. الخلاف السياسي مشروع والانقسام السياسي علامة حياة المجتمعات، الاميركيون منقسمون سياسيا وكذلك الإسرائيليون. العرب لا يحق لهم ذلك، عليهم أن ينقسموا طائفيا، والطائفة هي التي تحدد الموقف السياسي، السنة في لبنان مع أميركا وفي العراق ضدها والشيعة على العكس، المشكلة في فلسطين حيث لا يوجد شيعة فجعلوا من فتح طائفة حتى تحترب مع طائفة حماس.

الضحية الأولى في "الفتنة" التي عمت الدول الثلاث هي الديمقراطية. فأميركا معنية أولا وآخرا بضرب من يقاومها أو يقاوم إسرائيل، مهما كانت أكلاف الضربة. فحياة الناس وجوعهم وفقرهم وديمقراطيتهم لا تعني شيئا في ظل الحرب على "الإرهاب". لا يعقل كيف يحشد الدعم الدولي والإقليمي في مؤتمر باريس 3 ويقدم للبنان زهاء السبعة مليارات هبات وقروضا ولا يسمح للشعب الفلسطيني بإدخال دولار. مع أن حجم الكارثة الإنسانية لا يقارن بين لبنان وفلسطين.

أميركا تحرض على الفتنة، وهي تضغط في لبنان من أجل نزع سلاح حزب الله ولو أدى الأمر إلى حرب أهلية. والفتنة ذاتها تمارسها في فلسطين، وبدلا من أن تزود الشعب الفلسطيني بالغذاء والدواء تزود الحرس الرئاسي بالعدة والعتاد ليس لتحرير البلاد المغتصبة وإنما لنزع سلاح حماس وعبر حرب أهلية أيضا. في العراق الفتنة حرقت الأخضر واليابس.

الفتنة ليست اختراعا أميركيا. هي موجودة نائمة تحتاج فقط من يوقظها. وهي مهمة قامت بها أميركا على خير وجه، بمساعدة منا بحسن نية أو بسوء نية، النتيجة لا فرق. نار الفتنة تحرق الجميع بمن فيهم الأميركيون.

[email protected]